في صيف عام ١٩٦٦ خرجنا مجموعة من طلاب ثانوية خور مكسر بعدن إلى ميناء البواخر بالتواهي نودع أستاذ الأدب الانجليزي بالمدرسة آنذاك السيد " ماكايفر" وهو أسكتلندي الأصل، ونقل إلى عدن من "فيجي آيلند" قبل ذلك بعامين . منذ وصوله إلى عدن والمظاهرات والإضرابات العمالية والطلابية لا تتوقف، وكانت الثورة تتصاعد في صور عدة من الأعمال السياسية والشعبية والعسكرية. تعرض- ذات صباح وهو في طريقه إلى المدرسة- لشغب من قبل بعض المتظاهرين، تحطم بسببه الزجاج الأمامي لسيارته. جاء بعد الحادث إلى المدرسة، وهو بشخصيته ذات الهيئة العسكرية، وكان متماسكاً، وأخذ يمسح بمنديله بقايا الدم الذي كان يسيل من جرح فوق حاجب عينه اليسرى. هرعنا إليه نسأله عما حدث. تبسم وقال: كان عليّ أن أقوم بدور أحدب نوتردام لأتجنب الحادث، ما حدث لي ليس له علاقة بالثورة ولكنه على علاقة بالشخصية التي ظهرت بها أمام المتظاهرين.. رأوني في شخصية محتل، وكان يفترض أن أجعلهم يروني في صورة مدرس أو معاق". كان يضحك، ويمسح الدم من على جبينه، وكنا في غاية الإحراج. بعدها بشهر جاء وقت رحيله، كان ذلك قبل عام من الاستقلال، فقد سرعت الحادثة موعد مغادرته عدن ضمن القوائم المعدة للسفر لأسباب أمنية . خرجنا الى الميناء الذي سيستقل منه الباخرة لتوديعه. في لحظة التوديع قال كلاماً كثيراً في وصف عدن وعن مشاعره . كانت هناك باخرة ضخمة تحمل سواحاً في طريقهم إلى استراليا قد رست على الفور في الميناء، وأخذ السواح ينزلون منها إلى القوارب التي تقلهم إلى الرصيف في مشهد تزين فيه البحر بألوان الملابس التي كان يرتديها السواح والقبعات التي يعتمرونها . نظر الأستاذ "ماكايفر " إلى السفينة وما أحاط بها من منظر وقال: كل ما أتمناه هو أن علاقة عدن بالبحر لا تخربها علاقتها باليابسة". لم نفهم يومها هذه العبارة.. لكن بعد سنوات طويلة أدركت المعنى الذي قصده ذلك الأستاذ الطيب وكيف تغلبت اليابسة لتذهب بعدن بعيداً عن عذوبة البح .
د.ياسين سعيد نعمان
د. ياسين سعيد نعمان 1444