عاد السندباد إلى لندن، طاف البحور السبعة وعاد. اتصل، قال: أنا هنا. قلت: هي القهوة إذن. وتواعدنا إلى المقهى ذاته. يحب اليمنيون الذهاب إلى المقاهي في بلدان المهجر- بحثاً عن البن- لكنهم لا يجدون رائحة الشجرة الباسقة في جبال بني مطر ويافع. طلب السندباد «اللاتيه» الإيطالية، كما يطلبها بحار من صقلية، وطلبتُ الـ «موكا/Mocha» كصياد من تهامة. النادلة البرازيلية لوسيا، تشرح بتفاعل لا ينقصه الحماس أصالة قهوة الموكا البرازيلية، فيما أنا أصغي على مضض، قبل أن أجرح شعورها الوطني بالقول إن الماركة العالمية «موكا» هي المدينة اليمنية «مخا»، التي كانت ذات يوم ميناءً عالمياً يصدر أجود أنواع قهوة المخا أو الموكا، التي هاجرت إلى أمريكا اللاتينية لتُنسب إليها، فيما غرقت المخا في رمال النسيان، قبل أن تتحول إلى مركز لرجال العصابات والتهريب بين اليمن وافريقيا. ابتسمت لوسيا، وقالت: من أين أنتم؟ قلت: من المخا، تبسمت وقالت: استمتعوا، وغاصت في بحر زبائن الموكا واللاتيه. التفتُ إلى السندباد وقلت: حدثني يا «جوّاب البحور»، ماذا لديك عن اليمن؟ قال مباشرة: إيران هددت بمنع تصدير أي نفط آخر إذا لم يسمح لها بتصدير نفطها. قلت: أريد أخبار المخا. قال: حدثتك بأخبار المخا. قلت: ما علاقة إيران بموضوعنا؟ قال: نفذ الحوثي التهديد الإيراني واستهدف ناقلة نفط سعودية في البحر الأحمر، وبعثت إيران بالرسالة عبر مضيق باب المندب، لأنها لا تستطيع إرسال هذه الرسالة عبر مضيق هرمز. أضاف محدثي: إيران تجيد ارتداء القفازات التي تخفي بصماتها في مسرح الجريمة. تختار مرتزقتها للأعمال القذرة، بعيداً عن أراضيها ومياهها الإقليمية، كي تظهر بمظهر من يترفع عن مثل هذه الأعمال غير المسؤولة، وتمسحها في لحية وكيلها الحوثي في اليمن. قلت: وماذا بعد؟ قال: دونالد ترامب عرض على روحاني لقاءً مباشراً. قلت: فليذهبا إلى الجحيم؟ أريد أخبار اليمن. قال: خذ هذه: الثلاثاء أعلن الحوثي وقف عملياته البحرية ضد خطوط الملاحة، وهذه هي الاستجابة الإيرانية على دعوة ترامب. قلت: تريد أن تقول إن الحوثي حول اليمن إلى منصة إطلاق صواريخ ومبادرات إيرانية؟ قال: هو يحاول ذلك، لكن اليمن أكبر من جمجمته المعلبة. أضاف: يسعى الحوثي إلى أن يعصب رأس اليمن بعمامة الولي الفقيه، وينظر الحوثيون إلى إيران على أساس أنها وطن المشروع الكبير الذي يجب أن تلتف حوله حركات «التشيع السياسي» لإقامة «دولة الولي الفقيه العادل، نائب الإمام»، كما يترآى لهم في اليوتوبيا الحالمة. أردف السندباد: ألا ترى كيف يمجد الحوثيون الملك الحميري سيف بن ذي يزن؟ لأنه أول من شرع لليمنيين الاستعانة بالفرس، عندما استنجد بكسرى ضد الاحتلال الحبشي لليمن، فأرسل معه كسرى اللصوص والسجناء لقتال الأحباش لتحقيق أحد هدفين: إما التخلص من اللصوص والسجناء بهلاكهم في الحرب مع الأحباش، أو إضافة مستعمرة جديدة، ودرة أخرى للتاج الفارسي. وقد تحقق الهدف الثاني وانتقل اليمن من الاحتلال الحبشي إلى الاحتلال الفارسي، الذي سار على نهج نظيره الحبشي، في محو آثار الحميريين، والتحكم في رقاب اليمنيين، قبل أن يعتنق اليمنيون الإسلام، ويتخلصوا من حكم اللصوص الذين عادوا إلى اليمن مرات عديدة بعد ذلك، قبل أن يتمكنوا أخيراً من السيطرة على صنعاء في 2014. قلت: هذا تاريخ مضى، أريد حديثاً عن الحاضر. رد السندباد: التاريخ البعيد هو الحاضر المعيش، ولصوص الأمس هم لصوص اليوم، وقد أرسل كسرى فارس حسن روحاني هدية إلى قيصر الروم دونالد ترامب عبر البحر الأحمر، من أجل أن يقبل القيصر باستمرار تدفق نفط فارس وحريرها إلى أوروبا وبلاد المشرق، وإلا فإن القراصنة الذين أرسلهم كسرى إلى اليمن سوف يستهدفون ناقلات النفط التي تحمل الذهب الأسود إلى بلاط قيصر واشنطن. قلت: أخرجنا من التاريخ. قال: لكي تفهم الحاضر لا بد أن تذهب إلى رفوف المكتبات وأجنحة المتاحف، لتفك رموز «المسند الحميري»، وتعرف كيف يتناسل التاريخ واللصوص على حد سواء. واصل: هذه المنطقة هي منطقة أطماع تاريخية. غزاها الأحباش والفرس والرومان ووصلها الأتراك وغيرهم، في حملات متتالية. أردف: أهم ما يميز اليمن عمقها التاريخي وموقعها الجغرافي، والأمم الأخرى تعرف ذلك، لذا ترى الحوثي يمجد حضارة فارس على حساب حضارة حِمْيَر، لينسي اليمنيين كنوزهم الحضارية، وترى العالم يتسابق للسيطرة على الموقع المتميز، عبر السيطرة على السواحل والبحار والجزر، للتحكم في حركة الملاحة البحرية، وترك الداخل للصوص يتقاتلون عليه، ومن ثم تذهب ميزة الموقع الجغرافي، والعمق التاريخي. قلت: ما لنا ولهذه «الخطرفات» التاريخية، دعنا من الماضي، فالتاريخ لا يكرر نفسه. قال ضاحكاً: خدعكم من قال إن التاريخ لا يكرر نفسه، هو يكرر نفسه، ولكن ليس بطريقة حرفية، إنه يلعب لعبة المهرجين بالتنكر وراء بهرج الشكل ليخدع المؤرخين عن حقيقة كونه يتكرر مرات عديدة. قلت ماذا تريد أن تقول؟ قال: الأمور واضحة لا تحتاج إلى سؤال. إيران تحاول بعث امبراطوريتها، والعرب يواجهونها بلا مشروع. قلت: هل يعني ذلك أن المشروع الإيراني سيُنجز؟ قال: نعم ولا. قلت: كيف؟ قال ستفشل الأحلام الامبراطورية الإيرانية على واقع الرفض التاريخي والاجتماعي والديني والثقافي له لدى شعوب المنطقة، لكن الخطة «باء» من المشروع المتمثّلة في خلخلة البناء السياسي والاجتماعي والثقافي العربي ستنجح إلى حين. قلت: وجود هذا المخطط يدل على دهاء الإيرانيين؟ قال: لا، بل دهاء الذين رسموا الخطة التي تحولت إيران بموجبها إلى أداة نشر للفوضى والخراب في البلدان العربية، وسوف يسعى راسم الخطة إلى تحجيم إيران، حال فكرت في تعدي الحدود المرسومة لها، في الإضرار بغير العرب. قلت: الإيرانيون أغبياء إذن؟ قال: لا، هم فقط أذكى من العرب. قلت: طوحت بعيداً عن اليمن، عد بنا إليه. قال: لا. أي حديث بعيد عن اليمن، هو من أجل أن تفهم – عن قرب – الوضع في اليمن، كما أن الحديث عن اليمن يجعلك تفهم تصرف اللاعب الإقليمي والدولي، أو بلغة التاريخ، يجعلك تفهم سياسات كسرى وقيصر، تماماً، كما أن الحديث عن التاريخ هو حديث في صلب الحاضر اليومي. قلت: حدثني عن مارتن غريفيث. ضحك طويلاً وقال: مارتن يدير أزمة ولا يحلها. قلت: لماذا؟ قال: الذي أرسله أوكل إليه هذا الدور. قلت: وما الفائدة؟ قال: الحرب في اليمن تجارة، وصاحب التجارة لا يريد لها أن تبور. قلت: وضح. قال: لو كنتَ تاجراً لما طلبت الإيضاح، أريد فقط أن أقول لك إن صاحب مصنع السلاح الذي يتقاتل به اليمنيون، هو الذي أرسل غريفيث، لا ليحل الأزمة، بل ليمنع انتصار طرف على طرف، ليس محبة في طرف، أو كراهية لآخر، ولكن ليستمر بيع السلاح. قلت: أرسلته الأمم المتحدة. ضحك السندباد، وقال: لا توجد أمم متحدة، هناك مجلس أمن شكلته الدول المصدرة للموت والسلاح. قلت: الخارج – إذن – هو المسؤول عما وصلنا إليه؟ قال: إذن أنت لم تقرأ إلا فصلاً واحداً من الرواية، لا تصدق أن الخارج يدخل إلا إذا فتح له الباب من هم في داخل الدار. قلت: لا حل إذن؟ قال: يمكن أن يكون هنالك حل، إذا انتبه «أهل البيت» للأخطار المحدقة بهم. قلت: لن ينتبهوا، ولذا ستستمر الحرب؟ قال: لا حرب تدوم، الحرب وسيلة لإحداث عدد من الإزاحات في المواقف والسياسات والبنى الاجتماعية والفكرية والثقافية، ولدفع الناس بعضهم ببعض، لحكمة يعلمها الله، وإذا ما انقضت أهداف الحرب توقفت. أردف: بعض الحروب ضرورة حتمية من أجل السلام. قلت: تتكلم بالألغاز! قال: اشرب القهوة، وستحل اللغز بيسر وسهولة. نهض السندباد على عجل، كانت سفينته أو طائرته تنتظره، وتركني لـ»لوسيا» التي عادت تحدثني حديثها المُمِلّ عن البرازيل، «بلاد القهوة»، فيما كان خيالي يحلق فوق أشجار البن الباسقة في يافع وبني مطر، ويرحل إلى أرض سبأ التي خرج منها اللبان والبُرود والسيوف اليمانية وبلقيس التي أدهشت جن سليمان بن داوود.
د.محمد جميح
أنا والسندباد ومقهى لندني 1449