قاد القاسم بن محمد مؤسس «الدولة القاسمية» مقاومة عنيفة ضد الأتراك، بعد أكثر من سبعة عقود من تواجدهم الأول في اليمن، مُستغلاً ركونهم للاستقرار، وتقليصهم لعدد قواتهم، وسانده في تمرده ذاك، قبائل «همدان، وخولان، وسنحان، والأهنوم». من جبل «قارة» جنوب صعدة، وفي مطلع العام «1006هـ» أعلن «القاسم» نفسه إماماً، وتلقب بـ «المنصور»، معارضاً لـ «المُتوكل» عبدالله بن علي المؤيدي، كان الأخير كأسلافه في غاية الضعف، تخلّى عن دعوته لبعض الوقت، وبايع منافسه الجديد. بدعم من الأتراك، نقض «المتوكل» بيعته، فأرسل إليه «المنصور» مُهدداً ومعاتباً: إن كنت تبغي هدم دين محمد فأنا المريد أقيمه بدعائم لولا اشتغالي بالحروب وأهلها لوجدت نفسك لقمة للاّقم الأتراك حينها كانوا القوة الأكثر حضوراً، ساهمت جهود الوالي حسن باشا في بسط نفوذهم على معظم المناطق اليمنية، وتركيع أدعياء الإمامة فيها، وحين أعلن «المنصور» تمرده عليهم، تصدى له ذات الوالي ببسالة، بعد أن تم إسناده من «الاستانة» بالمال والرجال. بِسرعة خاطفة تمدد «المنصور»، وبِسرعة خاطفة انكمش، دارت بينه وبين الأتراك معارك كثيرة، لينحصر في آخرها بـ «شهارة»، بعد أن خسر عمه «عامر» أحد أبرز معاونيه، وحين طال أمد الحصار عليه، هرب مُتخفياً تاركاً ولده «محمد» مكانه، لم يصمد «الابن» كثيراً، خرج طالباً الأمان، مؤثراً الاستسلام «1011هـ»، ليدخل وشقيقه «أحمد» مذلة الأسر، أما «الأب» فقد ذهب وجماعة من خُلص أصحابه إلى منطقة منقطعة حتى انقطعت أخباره، وظن الناس هلاكه. بداية العام «1013هـ»، وبعد «25» عاماً من مقدمه، غادر حسن باشا اليمن، جاعلاً نائبه سنان باشا مكانه، شدد الأخير وفي ذات العام الخناق على «المنصور»، المقيم حينها في «برط»، وفي ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «ولما اشتد الأمر على الإمام، ورأي أن الأيام قد فوقت إليه السهام، أزمع على الرحيل إلى البصرة، إلى أن تأتيه من قبل الله النصرة». كان والد «المنصور» أحد أبرز رجالات المطهر بن شرف الدين، إلا أن أحفاد الأخير وقفوا ضده، كونهم حينها كانوا حكاماً لعدد من المناطق والحصون باسم «الدولة العثمانية»، ويعد الأمير عبدالرحيم بن عبدالرحمن بن المطهر ـ عامل حجة ـ أبرزهم، اللافت في الأمر أن «المنصور» بدأ عهده بمحاربتهم؛ لأن قتال البغاة عنده مُقدم على قتال الكفار. تمرد الأمير «عبدالرحيم» على الأتراك «1014هـ»، وتحالف مع «المنصور»، قويت بذلك شوكة الأخير، فاستعاد أنفاسه ومكانته الدينية والقبلية، وعاود بمساعدة ذات الأمير السيطرة على عدد من المناطق، كـ «الحيمة، والسودة، ووادعة، وشاطب، والشاحذية، والأهنوم، وشهارة»، وجعل من الأخيرة عاصمة لدولته، ثم ما لبثا أن اختلفا، وحاربا الأتراك مُنفردين. بعد اجتياحه منطقة «وداعة ـ حاشد»، بعث «المنصور» برسالة لأحد أتباعه توضح نهجه الإجرامي، جاء فيها: «وبقية من المخذولين في بلاد وداعة، صار القتل فيهم كل يوم، وقد قتل الجند المنصور إلى اليوم فوق مائة قتيل، وتغنموا منهم غنائم حسنة من السلاح والدراهم». تم عزل سنان باشا مطلع العام «1016هـ»، وجيء بـ جعفر باشا بدلاً عنه، عمل الأخير على مصالحة «المنصور»، مُعترفاً له بما تحت يديه، مُطلقاً سراح ولديه «محمد» و«أحمد»، وباقي الرهائن، لينصرف بعد ذلك لإخماد تمرد «عبدالرحيم»، نجح بعد عامين في إلقاء القبض عليه، وأمر بنفيه إلى «استانبول». ذكر «ابن الديبع» أن «المنصور» حينما رأى ولده «محمد» بعد عودته من الأسر وقد غلب عليه التنسك، طالبه من فوره بخلع مسبحة كانت تتدلى من فوق رقبته، وأمره أن يجعل السيف مكانها، وخاطبه: «شمر للجهاد، إنما هذه من صفة القاعدين». في «ربيع الأول» من العام «1022هـ»، تم عزل الوالي «جعفر»، وجيء بـ إبراهيم باشا بدلاً عنه، توفي الأخير قبل أن يصل صنعاء، فأعاد «الباب العالي» الوالي السابق لمنصبه، ليستعر بسبب ذلك الخلاف «التركي ـ التركي»، الأمر الذي حفز «المنصور» على نقض الصلح، والسيطرة على بعض المناطق الشمالية. في أواخر ذات العام، وبعد إخماده لتمرد أحد القادة الأتراك، وجه جعفر باشا «17,000» مقاتل لمحاربة «المنصور»، نجحوا في أسر ولده «الحسن» بـ «عِرة ـ الأشمور»، وساوموه بالإفراج عنه مقابل انسحابه من المناطق التي سيطر عليها، فكان جوابه لموفدهم: «أنه لا يسعني عند الله ذلك، ولا تجمل بي تلك المسالك». نجح الأتراك في استعادة «بلاد الشرف، وعفار، وجنب، والمحابشة، والحيمة، ووداعة، وصعدة»، وأقدموا في الأخيرة على قتل علي بن الإمام، بعد أن أعلنت قبائل تلك الجهات ولائها لهم، استعاد «المنصور» في العام التالي زمام المبادرة، وفتكت قواته بعساكر الأتراك فتكة عظيمة، الأمر الذي أجبر جعفر باشا على المطالبة بتجديد الصلح، وأوعز لـ «الحسن» الكتابة لوالده بذلك. تجدد الصلح «رجب 1025هـ»، وأضيف لـ «الدولة القاسمية» مناطق جديدة، وأبقي «الحسن» في صنعاء رهينة، استقرت حينها الأوضاع نسبياً، بالتزامن مع عزل جعفر باشا، وتعيين الوزير العادل محمد باشا بدلاً عنه، وقد بدأ الأخير عهده بزيارة ضريح الشيخ أحمد بن علوان، وأمر بتوسعة مسجده المشهور، كما قام ـ فيما بعد ـ بتجديد سور صنعاء، وتعمير وتشييد عدد من المساجد والقلاع والحصون. عمَّ القحط البلاد، وتجددت منتصف العام التالي المواجهات بين الجانبين، حققت قوات محمد باشا بعض الانتصارات، وفتكت في «بلاد حضور» بالقائد الإمامي الأبرز عبدالله الطير، وفيه وفي تلك الانتصارات قال الشاعر محمد الحوثي مادحاً ذات الوالي: سل حجة عنه واسأل بعدها شطباً وفي ربا خمر دان الأولى دان عداك للطير في ذا العيد قربان تنتاشهم أنسر منها وعقبان بمبادرة منه، أوقف الوزير محمد الحرب، وبدأ بمراسلة «المنصور» مُجدداً معه الصلح لعشر سنوات قادمة «1128هـ»، مُعترفاً بسلطاته، مُبادراً بالإفراج عن عدد من المساجين عدا ولده «الحسن»، وقد سمح للأخير أن يبني لنفسه منزلاً، وأهداه جارية، ومنها وفي العام التالي أنجب الأخير ولده «أحمد»، الاسم الأكثر حضوراً في الأحداث الآتية. قبل توليه الإمامة، أخترع القاسم بن محمد نظرية السيطرة على الجن، والاتصال بالملائكة، ولو تتبعنا ما ذكره المؤرخ «الجرموزي» ـ كاتب سيرته ـ حول ذلك، لوجدنا الكثير من الأحداث البعيدة عن الحقيقة، والغير مستساغة عقلاً ولا منطق. ذكر ذات المؤرخ أن «المنصور» كان يتردد في باكورة شبابه على سوق «بيت عذاقة» من بلاد «مسور»، وأن المسيخ الدجال كان يطل على الناس مُتنكراً، يضللهم ويفسد عليهم دينهم، وأن «القاسم» اكتشفه دون سواه، ثم قام بمطاردته وأجبره على الفرار، وعلى عدم العودة لذلك السوق مرة أخرى. أما المؤرخ «زبارة» فقد ذكر هو الآخر أن سكان صنعاء ألفوا ـ في فترة من الفترات ولمدة شهرين متتاليين ـ سماع منادٍ في الليل ينادي: «يا إمام، يا قاسم»، وأنهم في كل مرة ذهبوا بها إلى مصدر الصوت لم يجدوا شيئاً، اللافت في الأمر أن «القاسم» حينها كان مقيماً في صنعاء، ويعمل مدرساً بمسجد داؤود بن المكيني. رغم أن «المنصور» كما يقول غالبية مؤرخو الإمامة من نسل «الهادي» يحيى، إلا أنَّ بني عمومته من «آل شرف الدين» في كوكبان، و«آل المؤيدي» في صعدة، وقفوا في الغالب ضده، وكذلك «الحمزات» في صعدة والجوف، والسبب؛ عدم اعترافهم بقرابته، الأمر الذي حفزه على محاربتهم، والرد عليهم في كتابه: «بغية المريد فيمن ولده السيد علي بن محمد بن علي بن الرشيد». يقول «المنصور» في ذات الكتاب: «فإنه لما طرق سمعي من أبناء السادة الأعلام، أهل الوقت يسأل عن نسب بعض أهله من عصبته ونسبه بصيغة الاستنكار، علمت يقيناً أنه قد جهل النسب من نفسه وأهله، فضلاً عن غيره». اللافت في الأمر، أن بعض النسابة رجحوا أن أصول الإمام «القاسم» غير عربية، مُستدلين بملامحه البعيدة الشبه عن بني عمومته، وذكر أحدهم أن جده قدم إلى «بني مديخة»، وتزوج من أسرة يمنية من «الشرف»، وأنه استغل جهلهم وتشيعهم لـ «آل البيت»، وأدعى نسبه ذاك، والله وحده العالم بصحة ذلك من عدمه. غير الكذب، والدجل، والشعوذة، اشتهر «المنصور» بتعصبه المذهبي «الجارودي»، وسبه للصحابة، وتكفيره لمُخالفيه، وقتله لهم إذا لزم الأمر، وحين ظهر أحد المتصوفة في صنعاء ـ وكانت آنذاك خاضعة للأتراك ـ تسلل إليها ليلاً، وكمن للفقيه الصوفي في أحد الأزقة، وأرداه قتيلاً، بعد أن شج رأسه بعمود، حتى أخرج دماغه من بين أذنيه، ثم خرج من المدينة خائفاً يترقب. ومن أشعاره التي توضح منهجه: يا ذا المريد لنفسه تثبيتا ولدينه عند الإله ثبوتا لا تعدلن بآل أحمد غيرهم وهل الحصى يشاكل الياقوتا
بلال الطيب
المُتصل بالملائكة!! 1206