يبدو أن الزمن توقف أو أن الذهن عطب بحيث لم يعد قادراً على الفهم والإدراك. توقف الوقت والتفكير عند لحظات العصيان، وإحراق الإطارات، وقطع الطرقات، وإلى تظاهرات وهبَّات شعبية. وهذا التوقف أو العطل الذي أصاب ذهنية ساسة اللحظة، تجلى واضحاً بسلوك وتفكير من نصفهم بقادة الحاضر، فالواقع أننا عدنا ومن حيث لا نريد إلى البدايات الأولى، وتحديداً، إلى ما قبل ثورات الشباب العربي، وإلى حقبة الهتافات اللاهجة: ثورة ثورة يا جنوب". يا سادة يا كرام، ما القصة وما الحكاية وكيف عدنا القهقري لحقبة التظاهرات الغاضبة؟ حسناً، معسكرات الجيش أفرادها منكم، والأمن أنتم عداده وعدته، والسلطات والمؤسسات المحلية والمركزية باتت خاضعة مطيعة لكم، هذا إن وجدت؛ فعلام تتظاهرون وعلام تغلقون وتغضبون وتحرقون ؟؟ سأقول لكم ما القصة وما الحكاية ؟ الحقيقة أن قادة المرحلة يخشون مواجهة أتباعهم وأنصارهم، واتقاء للأزمة التي قد تعصف بالجميع، فضَّل هؤلاء الاستمرار في عنادهم وخطلهم. فما من احد يمكنه التسليم بحتمية ما أفرزته الأحداث المتسارعة المهولة الناتجة في الأصل عن أزمات سياسية ووطنية ومجتمعية وأخلاقية أفضت بدورها لكارثة الحرب التي مازالت مستمرة ولا يبدو أن هنالك ثمة بصيص أمل بتوقفها على المدى القريب.. فكلما طالت الحرب كرست معطيات جديدة أكثر تعقيدا،وهذه المعطيات السياسية والوطنية للأسف يتم الالتفاف عليها أو إغفالها وعن عمد وإصرار غريبين، الأمر الذي أوصل الحالة وأعادها إلى مربع التظاهرات الاحتجاجية والى نقطة البداية الاولى.. فمثلاً، أشعر بالمرارة حين لا اعثر على حل لمشكلات انقطاع التيار وتدهور العملة وما ترتب عنه من ارتفاع جنوني للأسعار وتعرفة المواصلات والخدمات، عوضاً عن انتشار مخيف للسلاح والجماعات المسلحة. نعم، شيء مقلق رؤية الإطارات المتفحمة في الشوارع الرئيسة، بل ولكم زادت حسرتي من هول القذارة التي تعيشها المدن المحررة،فضلاً عن انهار مياه الصرف الصحي المتدفقة الى أكثر الأمكنة حيوية، والى كل ركن وزاوية وشارع.. سألت أكثرهم حماسة لإسقاط الحكومة: ألا تستحق مثل هذه التعقيدات السياسية شيئاً من إعادة التفكير، بحيث يتماهى الفعل السياسي مع هذه المتغيرات بشيء من الحكمة والذكاء بدلاً من العناد والغرور أو الهروب؟. كما وسألت أكثرهم حماسة للعصيان وإحراق الإطارات: ألا تشعرون بالخزي والحرج وانتم تدعون لإسقاط السلطة الشرعية التي مازالت والى اللحظة منفية في الرياض ؟. كيف سيلتفت العالم لكم وكيف ستقنعون الأمم المتحدة ومبعوثها ومجلس الأمن ودول الخليج بينما انتم عاجزون عن تنظيف أنفسكم ومدنكم من أوساخ ونفايات كدستها إدارة فاشلة وفاسدة ؟؟ أتدرون ما هي إجابة من سألتهم ؟ بكل تأكيد وقحة، كاذبة، مضللة، غبية،ومستفزة - أيضاً - فكل هؤلاء وجدتهم يحدثوني عن ماض بليد وعن أفكار سطحية شيطانية لا صلة لها البتة بالمشكلات ولا بالقضايا السياسية أو الإدارية والنظامية.. الجامع المشترك لهم جميعا،أنهم يعيشون حقبة تاريخية ذهبت وبلا رجعة، فمثلاً، يصفون كل من لا يتفق مع رؤيتهم ومسلكهم العبثي بأنهم عرابين لإعادتهم إلى باب اليمن في صنعاء. والحال ينطبق مع كل صوت يؤمن بالعقل والمنطق ولغة المنفعة والتنمية والخدمات والمرتبات والاستقرار السياسي باعتباره جوهر القضية اليمنية ومفتاح تطورها. فلا أحد من هؤلاء يمكنه استساغة أن الرئيس صالح تم خلعه ومن ثم قتله أو اغتياله على يدي حلفائه الانقلابيين الحوثيين. كما ولا أحد يمكنه فهم أن قائد الفرقة سابقاً، الفريق علي محسن الأحمر صار اليوم نائباً للرئيس وهو اليوم منفياً في الرياض. يسهبون في الحديث عن الشيخ/ عبد المجيد الزنداني، عضو مجلس الرئاسة سابقاً، وصاحب الصولات والأشرطة الصوتية المحرضة على الجهاد في أفغانستان والجنوب قبيل عقدين من الزمن. ويغفلون الكلام عن الشيخ الزنداني الذي بات نازحاً ومشرداً في الرياض، كما ويهملون الحديث عن أتباع وأنصار صالح وعن انقسامهم ما بين فئة مرتدة في صنعاء وفئة مؤمنة في عدن والمخا.
وبالمقابل من كان متمرداً في كهوف صعدة، وخاض حروباً ضروسة ضد القوات الموالية للنظام السابق، عبد الملك وجماعته الحوثية، هما من يسيطر ويحكم العاصمة صنعاء ومعظم محافظات الشمال. وفضلاً عن خصوم الأمس، هنالك أصدقاء ورفاق النضال والهدف الواحد، ممن فرقتهم الأهواء والمنافع والمناصب الآن ؛ ففصيل ولي وجهه قبلة ابو ظبي، واخر ناحية الرياض، وثالث آثر أن يبقي تابعاً لبيروت وطهران، ورابع الدوحة وأنقرة، وهكذا دواليك من المتغيرات والمواقف التي صنعتها الأزمة والحرب وما تلاها. وبرغم هول ما حدث هنالك صنف من البشر كافر بالتغيير كظاهرة وجودية وحياتية منذ الخليقة الأولى. كأنه مومياء فرعونية محنطة في متحف حربي، الفارق أن الفئة الأولى لم تمت بيلوجياً، إذ مازالت كائنات حية وناطقة وصوتها يضج ويشنف الأذنين . وتزيد المأساة أنه يسمع ويرى ويتابع كافة الأخبار والتطورات السياسية والعسكرية، بل ويشاهد معاناة وطنه وشعبه ولا يبالي بكون هذا الشعب الذي يخطب فيه ويتحدث باسمه صار فريسة للأمراض والأوبئة والمجاعة والخوف والمعاناة والقتل والتنكيل وسواها من الأشياء المهلكة للآدمية. كما ولا يستحي أو يوخزه ضمير أو كرامة حين لا يفعل شيئاً حيال أزمات حياتية يومية تفتك باليمنيين كافة، ممن يعيشون عالة على الدول المانحة أو الداعمة المغيثة لهم..