إذا فتشت في سير جميع العظماء منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يومنا هذا ستجدهم نجحوا في جوانب وأخفقوا في أخرى إلا واحداً كان هو استثناء البشرية جمعاء.. إنه النبي محمد- صلوات ربي وسلامه عليه- وكان التوازن الذي حققه في جميع أمور حياته وفي شتى المجالات ومختلف الحالات هو سبب نجاحه، فكان قدوة كأب وبن وجد وزوج وقائد وصاحب وعابد وإنسان.. وهو الذي وضع ميزاناً للتوازن بكلمات بسيطة أقرها جاءت على لسان سلمان رضي الله عنه (إن لجسدك عليك حقاً ولربك عليك حقاً ولأهلك عليك حقا).. نهانا عن التعصب ( دعوها فإنها منتنة). وعن التطرف ( هلك المتنطعون). وعن المغالاة ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم). كان يصوم ويفطر، ويقوم الليل وينام، ويضحك ويبكي، ويُرهب ويُرغب، ويعطي كل ذي حقٍ حقه، وكل وقتٍ ما يناسبه، فإذا دخل رمضان شمر للعبادة وشد المئزر، وسمح للجارية أن تغني في يوم العيد في منزله قائلاً: (ليعلم يهود أن في ديننا فسحة).. قالت عائشة رضي الله عنها: (كان يُضاحكنا ونُضاحكه ويُلاعبنا ونُلاعبه حتى إذا حان وقت الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه).. وعندما ارتعد رجل وهو يكلمه قال له: (هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة). ورد على قول ذي الخويصرة: لم تعدل يا محمد! ( ومن يعدل إن لم أعدل) وقال في غزوة حُنين (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب). كان أرق الناس قلباً وإذا حمي الوطيس واشتدت المعركة، احتمى به أصحابه. ولما جاءه حنظلة يشكو إليه تقلب أحواله طمأنه وقال (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة).. وكان صلى الله عليه وسلم متزوجا بعدد من النساء ولم يظلم أي واحدة منهن ولم يغمطها حقها، ومن أمة محمد من إذا تزوج بالثانية تنكر للأولى وأولادها وكأنه لم يعش معها يوماً واحدا، ومن إذا بر والديه ظلم زوجته وإذا أحسن إلى زوجته عق والديه..
وقال أحد أصحابه الذين تربوا على يده وتخرجوا من مدرسة التوازن المحمدية (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).. وما وصلت الأمة إلى ما هي عليه من الضعف والهوان والخسران إلا بسبب فقد التوازن. ومن عجائب الأمور أنك إذا بحثت في المجال الطبي عن أعراض فقدان توازن الجسد ستجدها نفس أعراض فقدان التوازن النفسي والروحي والاجتماعي: ضبابية الرؤية. فقدان السيطرة على الجسم.. الشعور بالدوار والضعف وعدم الاستقرار.. عدم القدرة على المشي.. ونختم حديثنا بدعاء التوازن الذي كان يلهج به نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أسالك خشيتك في الغيب والشهادة وأسالك كلمة الحق في الرضا والغضب وأسالك القصد في الفقر والغنى). خُلقت مبرأً من كل عيبٍ كأنك قد خلقت كما تشاءُ