اللحظات الأولى لخيوط الشمس تمنحك رصيدًا كافيًا من الشعور بالدفء طوال اليوم، كذلك تفعل رائحة الأرض التي تنتمي إليها؛ إذ تُشذيك بالمسك ما دمت عليها، وتُشنّف العصافير مسامعك بأهازيجها الصباحية، وحين يبدأ يومك، فلا مفر لك من مراسم تبادل الابتسامة بينك وبين الآخرين، ثم تأخذ حقك من حيوية الحياة التي تعج بها الشوارع والأسواق والمكاتب والمؤسسات والمقاهي ومحال تبادل الأغراض، ودور العبادة والتعليم، وتعود منهكًا، فتسترح في أمان، حتى إذا غابت الشمس، انتظرت القمر، وعشت الليل معه مستمتعًا، تمارس ما يحلو لك، فتحوز حقوقك، وتؤدي واجباتك، وهذا ديدنك اليومي ما كنت ذا وطن يؤويك، ويحتويك، ويوفر لك لوازم البقاء عليه، إنك يا هذا في أتم السعادة، وأوج الأمان! إلامَ تنتمي؟ إلى أرض كل ما عليها يمنحك إكسير الاستمرار، إلى وطن لا يضاهيه وطن بديل، لذا فإنه يحيطك بكافة الطقوس اليومية، ما يمنحك روتينًا استثنائيًا، وإن كان بذات النمط، فهو يضمن لك ألا تتأذى على الأقل! دونًا، عن بلاد العرب أوطاني، ذات شعار " كل ما فيها أضناني"، فإنك ستتوصل إلى نتيجة عكسية، فهذه البلاد، بلاد طاردة لذويها، لا تشعرهم بأنهم منها وإليها، تأخذ منهم ولا تعطيهم، وإن أعطتهم في شوارد المرات، فإنها تمنحهم الاستبداد، والاستعباد، والفساد، والاقتتال، والفقر، والتشريد، والتدمير، هذا حقك، وما دونه لست على صلة به، شئت أم أبيت، فهذا قدرك، وعلى ذات المنوال مصيرك. كانت فلسطين وحدها، الدولة التي تبحث عن كيانها في خريطة الوجود البشري؛ بفعل الاحتلال الإسرائيلي القسري، والحاظي بدعم قوى دولية وإقليمية لها ثقلها على مستوى صناعة القرار الدولي، على إثر هذا الاحتلال الخارجي، فإن الفلسطينيين وحدهم، في النطاق العربي، من تكبدوا عناء الحرب، ووحشية الاحتلال، في إطار سياق زمني، واكب المراحل الاستعمارية وتجاوزها، للحد الذي تخلت قوى الاستعمار عن كافة الدول، وأبقت على فلسطين، وإن كان الخروج من باقي الدول صوريًا؛ لإبعاد شبهة الاحتلال، والإبقاء على الاستعمار كحقيقة عصية على الظهور! إنها الدولة العربية التي عانى ويعاني شعبها من أزمة غياب الوطن، الأزمة الشعورية القسرية، التي تجعلك تائهًا، تبحث عن وطن وأنت على ظهر الأرض التي ولدت فيها، طريدًا، شريدًا، تحيطك الأغلال والقيود من كل مكان، لا تهمة لك، سوى أنك تبحث عن وطن.. هذه أعتى صور المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون منذ 70 سنة. ولأنهم سئموا المعاناة، فإنهم لا يثقون في أي محاولة دولية توهمهم بدولة مستقلة، وبوطن ينتمون إليه؛ إذ لا شبيه لفلسطين، وإن كانت مجردةً من مضمون الدولة! خيارات المقاومة المتنوعة، وتصدير الحالة الشعورية للبحث عن فلسطين الوطن، جعلت الوضع معقدًا للغاية بالنسبة للإسرائيليين وداعميهم، فالعرب في الأراضي المحتلة ومحيطها لا ولن ولم يستسلموا، فواجهوا كافة المحاولات الاحتلالية لطمس فلسطين، حيث أحيوا الثقافة الفلسطينية المتوارثة، وأعادوا للمقتنيات الأثرية بريقها، وأحاطوا كل ماله علاقة بالموروث من أغان شعبية، وأزياء تقليدية، ومعالم عصية على الاندثار، أحاطوها بعناية فائقة، وصلت حد الموت دونها، وقبل ذلك كله الدفاع عن المسجد الأقصى، وصد كافة محاولات تهويده، صاحب ذلك عمليات نوعية للمقاومة المسلحة، إضافة إلى رأي عربي شعبي داعم ومساند، على المستويين المادي والمعنوي، ساهم في الإبقاء على فلسطين وجوديًا، محمولةً على أكتاف العرب، دون مشاعر الوطن بالنسبة لأصحابه، الذين يعانون أزمة حادة تتمثل في غيابه عنهم هذا ما شكل حالة الدفع التي وصلت في أوجها ضمن ما حدث تباعًا، كردة فعل رافضة، تشكلت في إطار انتفاضات شعبية جماهيرية، تطالب بالتحرر الداخلي من المُستعمرين المفروضين العابثين بمقدرات شعوبهم، ليُصدموا برفض من نوع آخر: إما الرضوخ، وإما حالة أخرى، ستبحثون خلالها عن أوطانكم، وهو ما حدث فعليًا، حين رفض المنتفضون خيار الرضوخ، والاستسلام لحالة الاستعمار السائدة. عمّت الأزمة بلدانًا ذات ثقل سياسي وثقافي وسكاني كمصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس، ومنها صار الوضع مختلفًا للغاية، فسكان هذه البلدان باتوا تائهين في سبل البحث عن أوطانهم، خاصة سوريا واليمن وليبيا، الدول الثلاث التي ولجت في أتون معارك داخلية بينية مذكاة من داعمين إقليميين ولاعبين دوليين، أرادوا لهذه الشعوب أن تعيش حقيقة " غياب الوطن"؛ لتتأكد من مدى المعاناة التي يتعرض لها الفلسطينيون منذ سبعة عقود، وهو ما يجري، فكل ما حدث لفلسطين، يحدث لهذه البلدان، بأيادي أبنائها المنقسمين، المنتمين للحالة الاستعمارية التي تقود هذه البلدان، بمهام محددة، لا مجال لتجاوزها! إننا مشردون، مطاردون، جائعون، فقراء، نملك المؤشرات الأدنى في لفت أنظار التقارير الدولية الحقوقية والإنسانية.. فمنا القتلى، والجرحى، والمدمرة بيوتهم، والمخربة مدنهم، والتائهون في عالم أنهكته الفوضى؛ لمجرد أنهم طالبوا باستعادة وطن مسلوب لشعب هاجت مشاعره، فسلبوا منا أوطاننا؛ لنكون في ذات الحكم، ونعاني كما عانوا " أزمة غياب الوطن".. قيل لمُنفذٍ إقليمي: ألا يؤلمكم ما يجري لإخوتكم العرب؟ فأجاب: من قال لهم أن يقتربوا من عش الدبابير " إسرائيل" ؟!
محمد علي محروس
أزمة غياب الوطن! 798