لم يقل الدكتور/ ناصر الخبجي- عضو المجلس الانتقالي- إلا شيئاً يُعبِّر عن قناعته، وبرغم ذلك أجبر على نفي شيء مقتنع به؛ إرضاء لآخرين، أو قولوا تماهياً مع الموجة السائدة الرافضة لكل أشكال التطبيع مع الواقع الجديد.. والأمر ذاته ينطبق على صلاح الشنفرة، الذي عاد بطائرة الرئيس هادي وقتها، لكنه- وبمجرد وصوله لقريته "غول سبولة" بالضالع- رأيناه شخصاً مغايراً، إذ- وبضغط وإلحاح من أتباعه ورفاق مقيله- أُجبر على استقالة من وزارة لم يزاول عمله فيها بعد، وهذه دلالة على مدى الإرباك الحاصل. ولو أنه انتظر أياماً قليلة؛ لحين تعيين عيدروس وشلال في منصبي المحافظ ومدير الأمن لعدن؛ لما تسرّع وأعلن عن نكثه لعهد قطعه، بل وأجزم أنه ندم على انسياقه خلف أصوات جامحة نزقة. المسألة لا تحتاج لدلائل وقرائن، فجُّل قادة المجلس الانتقالي أو سواه من المكونات الجنوبية، خائفون من مكاشفة أتباعهم وأنصارهم بحقيقة أن السياسة محكومة بظروفها التاريخية. وبما أن التاريخ سيرورة من الأحداث المتغيرة، فبكل تأكيد أن السياسي الناجح هو ذاك الذي تكون بدائله مواكبة ومتفاعلة مع متغيرات التاريخ وأحداثه. أما الفاشل سياسياً، فعلى عكس ذلك تماماً، إذ تكون أدواته تضاهي خياراته القديمة العاجزة عن التفاعل وبحيوية مع كل جديد ومتغير، ولدينا من هذا الصنف الكثير من القادة الحزبيين المتخندقين- ومنذ أكثر من نصف قرن- بقوالب قومية وشعبوية وتاريخية عفى عنها الزمن.. ولا أظن أن المسألة مقتصرة على الخبجي أو الشنفرة، اللذين اضطرا- في نهاية المطاف- للتراجع عن أقوالهما أو مواقفهما، وإنما هي صفة تكاد شاملة في أغلب قادة المكونات الجنوبية أو أتباعهم، إلا من رحم ربي. فجُّل هؤلاء يخشون التغريد بعيداً عن مزاج العوام، على ما في هذا التماهي، مع رغبات الشارع، من خطورة على السياسي الذي يفترض أنه يحمل أفكاراً ورؤى وبدائل سياسية وليس رغبات وأمزجة عفوية صاخبة، فهذه الأشياء مكانها الطبيعي الشارع وليس ذهن من يفترض أنهم قادة أو صُنَّاع قرار. ربما مبعث هذا الخضوع سببه الثقافة الشمولية الأحادية، ذات الصوت الواحد، والمكون الواحد، والشعار الواحد، فهذه الثقافة مازالت سائدة حتى اللحظة ولا يبدو أن ثمة استيعاباً للواقع الجديد ولا لتكتيكاته أو تحالفاته أو مصالحه أو غاياته. الجنوبيون لم يتعلموا بعد معنى التنوع والتعدد، وإن تعلم بعضهم فإنهم في الواقع أسرى لمقولة" مخطئ مع إخوانك، ولا مصيب لوحدك"، ولهذا يستحيل أن ترى سياسياً جنوبياً يغرد خارج الفكرة الأحادية التي لا تغضب أحداً أو تعبّر عن سياق مختلف.. أذكر أنني- وأثناء اشتعال الأزمة السياسية قبل حرب صيف ٩٤م- كنت أقرأ أحاديث مطولة للدكتور/ محمد عبد الملك المتوكل، أو يوسف الشحاري- رحمة الله عليهما- أو يحيى مصلح، وثلاثتهما قادة في المؤتمر الشعبي، وفي كل مرة استغرب وأندهش لتلك الأفكار الجريئة الناقدة، والقادحة حيناً للمؤتمر وتجربته. لكنني- وبمضي الوقت- أيقنت أن المسألة ليست عفوية فحسب وإنما مردها ثقافة جبلت التنوع وفي إطار المكون الواحد. كما وأدركت أن هذا التعدد الفكري لم يأت منحة من الحاكم المتسلط، وإنما أوجدته أعراف وتقاليد مجتمعية زخرت بمثل هذه الأفكار المختلفة التي حافظت على كينونتها كإرث قبلي، إلى أن جاءت التعددية السياسية لتضيف لها أدوات حديثة جعلتها تنفذ إلى مساحة أكبر ومجتمع أكثر. السؤال المهم الآن: أين محل الجنوبيين من هكذا تعدد وتنوع سياسي؟ ولماذا ينبغي أن نكون نسخة واحدة ومكررة من القائد زعطان أو فلتان؟؟ هذا اسمه خضوع وانقياد أعمى متعصب، ولا أظن الخبجي والشنفرة إلا قائدين من أسماء كاثرة تخشى التغريد بعيداً. وأكثر من ذلك، فليس هنالك اسم جنوبي واحد يمكنه التحدث عن رأيه وفكرته بحرية ودونما يقابل بالتخوين والإساءة والترهيب وسواها من مفردات الأنظمة الشمولية. طبعاً، الاستثناء الوحيد - والاستثناء لا يقاس عليه - تمثل بالمعارض السياسي الجسور، والمناضل والمفكر والكاتب/ عمر الجاوي- رحمه الله- فهو الجنوبي الوحيد الذي عُرف بتغريده بعيداً ومنفرداً عن ماكينة الدعاية النظامية الأحادية التي ما فتأت مستبدة بنا للحظة الراهنة..
محمد علي محسن
فوبيا الرأي الآخر 1084