إنَّ من أبشع الأفعال هو اعتساف الحاضر وبشكل عبثي مضلل يراد به إعادة إنتاج ماضٍ بعيد أو قريب، فلا فارق هنا بين فئة دينية تفني ذاتها لأجل علي أو معاوية وبين جماعة سياسية راديكالية متشبثة بنواميس ماضوية عفى عنها الزمن. وعليه ينبغي التعاطي مع أحداث التاريخ باعتبارها أحداثاً عاشتها الأجيال أو الأمم السالفة ويستحيل تكرارها ولو على طريقة كارل ماركس: التاريخ يعيد نفسه، إمَّا على شاكلة حدث أو ملهاة ". إنَّه ذات المنطق السقيم الذي يراد فرضه من الجماعة الحوثية المستمدة عقيدتها الفكرية من ماض بعيد عمره الف وأربعمائة سنة ودونما تبديل لغير الوسائل والأدوات والخطاب والأشخاص. فبرغم أن الحوثيين يقدمون أنفسهم إعلامياً وسياسياً كجمهوريين وعلى غرار جمهورية الملالي في إيران، ومع إصباغ الجماعة السلالية الطائفية بصبغة العصرنة والجمهورية؛ تبقى السلطة الفعلية بيد الجماعة السلالية الكهنوتية أو بمن يطلق عليهم اليمنيين تهكماً ب" القناديل". وبرغم معضلة الحوثية مع الماضي بتواريخه وأحداثه، قدرت على الأقل في تسويق نفسها خارجيا كطرف سياسي يمكن الوثوق به دوليا خاصة في مسألة الإرهاب ومحاربة جماعاته التكفيرية - وأيضاً - بكونها تخوض حرباً شاملة غايتها الدولة وعلى كامل مساحة اليمن. بل وأكثر من ذلك، إذ تعد مسيرتها القرآنية بمثابة ثورة يمكن تصديرها إلى دول الإقليم والعالم، ويكفي التدليل هنا برؤية الجماعة التي أقرها رئيس المجلس السياسي مهدي المشاط مؤخراً كبرنامج للفترة ٢٠- ٢٠٣٠ م، وخلت الرؤية من ذكر مشكلات اليمن السياسية والتاريخية كقضية الجنوب أو الحكم في اليمن وسبل تشاركه وتوزيعه باعتباره قضية محورية وأساسية في معظم الصراعات الداخلية . كما وتنصلت الجماعة من أي التزامات أخلاقية أو سياسية بشأن الدولة الفيدرالية، واعتقد أن ذلك كافياً لإقناع من يظن أن الجماعة يمكنها التفريط بالجنوب أو التخلي عن الشمال. وعودة للموضوع، الحرب في اليمن أخذت أنماطاً ومظاهر وقناعات عدَّة، فهي بالنسبة للسلفي جهاداً دينياً نصرة للعقيدة والمذهب السني، وفي مواجهة جماعة مارقة خارجة عن المذاهب الأربعة، ومن هؤلاء من يغالي فيعتبرها كافرة عقيدة وملة. وهي للمقاومة الجنوبية حرباً لتحرير الارض وفك ارتباطها عن صنعاء، وإن أخذت هذه المقاومة أنماطا وعناوين مختلفة، لكنها في الأغلب تلتقي في توصيفها بكونها حرباً للتحرير أو استعادة الدولة الجنوبية. كما وهي للمقاومة الشعبية أو الجيش الوطني الذي انضم أو مازال في طور التشكل؛ تعني تحرير اليمن واستعادة الدولة والسلطة وتبني خيار الدولة الفيدرالية الاتحادية وتنفيذ مقررات مؤتمر الحوار. وهي لآخرين حرباً شاملة تداخلت فيها عوامل وأسباب شخصية ونفعية وأيديولوجية وجغرافية وتاريخية ودينية ووظيفية وقبلية. نعم، الحرب في اليمن، لم تكن شطرية بالمطلق، إلَّا اذا تعاطينا مع مظاهرها الشكلية، فهذه المظاهر ربما أوحت للكثير بكونها شطرية خاصة مع تحرر معظم مساحة الجنوب وفي ظرفية وجيزة. فعلى صحة الفرضية القائلة بإن مهمة التحرير ما كانت ستنجح لولا ثلاثة عوامل رئيسة، سياسية وجهوية ومذهبية، كقوة محفزة قدر لها حشد الجنوبيين، وبرغم حقيقة هذه العوامل الثلاثة يصعب إغفال أو تجاهل حقيقة أن الحرب لم تقتصر فقط على شكلها الخارجي وإنما تعدت الى مضامينها السياسية المتمثلة بالدولة اليمنية وسلطتها الشرعية المنقلب عليها عسكرياً. فالانقلاب أدى لتدخل دول التحالف العربي، ولولا تدخل التحالف لدعم الشرعية لكانت الآن محافظات الجنوب رازحة لهيمنة القوى الإنقلابية الجهوية المذهبية الكهنوتية، ولكي لا اغمط مقاومة الجنوبيين أشير إلى ان مهمة التحرير أخذت طابعاً سياسياً وجهوياً ومذهبياً. فمن جهة تحرير الجنوب كان عامل الحسم فيها وجود قضية سياسية واصطفاف مجتمعي جغرافي، ومع تفرد الجنوب بهذه المزية، يصعب عزل الجنوب عن سياق سياسي وعسكري تخلق من رحم اللحظة الراهنة. ولهذا يصعب القول إن الحرب القائمة تماثل أياً من الحروب السابقة مثلما كان عليه الحال قبل التوحد، وتحديدا، حربا ٧٢- ١٩٧٩م، فحينئذ كانت الحرب بين جيشين ودولتين ونظامين وأيديولوجيتين. نعم، أعد الحرب المستعرة أوارها منذ مارس ٢٠١٥م وحتى اللحظة، حرباً في نطاق جغرافية واحدة، ودولة واحدة، وأن أراد البعض تشويه هذه الحقيقة وتجاوزها عناداً ومكابرة أو تضليلاً ومغالطة لا فرق. لا أخفي عليكم أنني كنت دعوت لعدم توريط المقاومة الجنوبية في جبهات الشمال، وما زلت أقول بالاكتفاء بدعم تلك الجبهات بما تحتاجه من وسائل الحرب أكانت فنية أو حربية أو لوجيستية أو إعلامية. ومع وجهة نظري تلك لا يعني أن الجنوبيين من دولة أجنبية وإنما أردت فقط تجنب الحساسية التي غذتها سنوات من الهيمنة والإقصاء الداخلي، فلا أود تكرار ما فعلته القوات الجهوية المنتصرة في حرب الأخوة الأعداء صيف ٩٤م. صحيح أن تحرير معظم مساحة الجنوب كان في مدة لا تتعدى الشهرين، إلا أن ذلك لا يعني أن الحرب بين طرفين شطريين مثلما يحاول البعض اجتزاءها ومن منظور جغرافي محض، وعلى أساس أن مهمة التحرير تعثرت عند حدود الدولتين السابقتين.. وأياً يكن الأمر فلم تكن أبداً بين دولتين أو شعبين، وإنما هي بين طرفين، سلطة شرعية وحلفائها في الداخل والإقليم وبين مليشيات سلالية طائفية واتباعها من الموالين والحلفاء الإقليميين الداعمين لها، وطبعا لا أستثني هنا قيادات ورموز لطالما كانت مؤيدة للنظام السابق. الواقع أنه وخلال حقبة التشطير القصيرة كان كل نظام أراد فرض الوحدة بالقوة العسكرية، ما يعني أن كل نظام حارب الآخر كيما يستولي ويسيطر على الشطر الآخر وأن بطريقة عنيفة. أمَّا الآن فالحال أن ثلث قرن من الزمن كانت كافية لتشكل واقع سياسي وديموغرافي لم يكن بحسبان أحداً من القوى السياسية أو الثورية أو القبلية أو المجتمعية أو حتى الاقتصادية. فكثير من هذه المسميات للأسف مازالت عاجزة عن فهم وادراك الحالة اليمنية الراهنة أو أنها تتحاشى التوصيف الدقيق لها تجنباً للانغماس في متاهات وأزمات إضافية والتي هي وليدة مجموعة من الظروف الموضوعية والذاتية . حالة اعتبرها نتيجة طبيعية لتراكمات من الممارسات الخاطئة للسلطة، وكذا من المتغيرات الاقتصادية والسياسية، ومن العلاقات والصلات الإدارية والاجتماعية، وسواها من المعطيات المُشكِّلة لكل هذه النتائج التي لم تعثر لها على حلول سياسية نتيجة لغياب الدولة وسقوط مؤسساتها وسلطاتها. كما واعتبرها نتاج ثلاثة عقود من الإخفاق السياسي، ومن الشحن والتعبئة الخاطئة الملوثة لبيئة غابت عنها مفاهيم التنمية والعدالة والمساواة والاستقرار. نعم، حالة مشوهة أفرزتها سنون من الطغيان للغة القمع والعنف والبغض والإقصاء والممانعة للإصلاح أو التغيير، ومن الفساد السياسي والأخلاقي والإداري والمالي والحياتي وغيرها من الممارسات الخاطئة التي يحسب لها تمزيق اليمنيين، وقتل أحلامهم وتطلعاتهم في إقامة الدولة المدنية الديمقراطية العادلة.
محمد علي محسن
للحرب أوجه ومآرب مختلفة 2 1065