في مثل هذا الوقت، وقبل ثلاثة عقود تامة، كانت هناك أصوات ناصحة أو محذرة، لكن هذه الأصوات للأسف لم تجد أذنًا صاغية أو عقلًا حكيمًا يعي معنى وحدة سياسية اندماجية وبين دولتين، ولكل منهما نهجها السياسي ونظامها الاقتصادي وأسلوب حياة مجتمعها. وفضلاً عن كل ما ذكر أنفًا، من سلَّمته راية الدولة الجديدة لم يكن آهلًا لقيادة دولة كبرت بمساحتها وشعبها ونظامها وأحزابها وديمقراطيتها وحتى تطلعاتها وأمانيها. فلا الجنوب اقتفى أثر ألمانيا الشرقية وزعيمه اريش هونيكر، بحيث يُسلِّم الجمل بما حمل، أو أن الشمال ماثل غرب ألمانيا من جهة تحمله لكل التبعات الاقتصادية، أو أن علي عبدالله صالح كان زعيمًا تاريخيًا كالمستشار " هيلموث كول ". فبرغم تلك التحذيرات الآتية من الشمال، أو الجنوب، إلا أن أياً منها أُخذ على محمل الجد، فلقد فضَّلت الغالبية العُظمّى، والعبد الفقير واحد منهم، الالتحاق بركب الوحدة ومشاطرة الجذلين فرحتهم بالعثور على مسار نجاة يفضي بهم جميعًا إلى النجاة والاستقرار والتنمية، أو هكذا حسبناه في ذينك الوقت. اليوم وكأنَّ التاريخ يعيد نفسه، فلا أحد يمكنه سماع صوت العقل والمنطق والمصلحة والمستقبل، فالموجة صاخبة طافحة بعناء ثلاثة عقود من اختطاف الدولة ومقدراتها، فلا مجال هنا لإجهاد ذاتك كيما توضح وتبرر للقوم المهرولين الفارين ناحية استعادة الدولة الجنوبية. فكلما طرقت بابًا أو قدمت نُصحًا، فلا تعثر إلا على الصفير والتصدية والجنون والغضب. تحدثهم بأن الجنوب في كيان دولة يمنية فيدرالية لهو الخيار الممكن والأنسب؛ فتأتيك الشتائم ومفردات التخوين، وهي ذاتها الافتراءات التي طالما تحمَّلها من يغرد خارج سرب الجماهير المشحونة بالغضب والحماسة. وأذكر هنا كم طال الأذى الشهيد جار الله عمر، وسلطان أحمد عمر ورفاقهم ممن نصحوا وحذروا من مغبة التوحد مع رئيس مخاتل وكذاب وفاسد ومنتقم. كما وتحمَّل ساسة يمنيون كُثر مثلهم وكان منهم قادة جنوبيين معروفين ولا داعي لذكر الأسماء؛ لأن بعضهم ما زالوا أحياء وأتمنّى أن لا يطول صمتهم وفي ظرفية تاريخية حرجة كهذه، ويقف فيها غالبية اليمنيين على منعطف خطر ومربك ولن يفضي بنا إلى حدود ما قبل العام ٩٠م مثلما يتصور بعض القادة من ضيقي النظرة والأفق. نعم، الوحدة بشكلها البائس والظالم والمشوه إبان حُكم صالح ورجاله انتهت وإلى غير عودة، وبالمقابل التجزئة وفق منظور البيض ورفاقه أو الجفري وأتباعه انتهت، وفي كلا الحالتين لا جدوى من الاستماتة في خنادق تجاوزها الزمن والمنطق والمصلحة والمستقبل. فبكل الحسابات السياسية أو الاقتصادية أو النفعية أو الذاتية ستجدون أنه ما من درب أضمن وانجع من الدولة الاتحادية العادلة والمنصفة لكل اليمنيين. والسؤال الأكثر إلحاحًا وأهمية الآن هو: ما جدوى الكلام عن دولة فيدرالية في ظل سيطرة الحوثيين على الشمال؟ وما قيمة الحديث عن دولة عادلة ومنصفة لكل اليمنيين في كنف واقع معقد ومحبط وفوق ذلك لا أفق سياسي من شأنه وقف الحرب واستعادة الدولة. كما وتزداد الحالة قتامة وإرباك كلما بقت فيه الدولة اليمنية وسلطتها الحاملة لمشروع المستقبل غائبة ومنفية في الرياض، ما أفقدها المبادرة لفعل سياسي يمكنه ضبط الحالة الراهنة أو يضعها في سكة مؤداها الدولة العادلة. فليس هنالك من حل أمثل أو بديل ناجع، لكل الأفكار والمشروعات وحتى الشطحات الآنية الغالب فيها الحماسة والعاطفة والثأرية، غير استعادة الدولة وحضور مؤسساتها وسلطاتها. فبغير الاشتغال على هذه الإجابات نكون فقط كمن يمنح قوى الانقلاب والهيمنة اكسيرا لصيرورتها وسيطرتها على رقعة جغرافية مهمة وحيوية، بمعنى أكثر دقة أننا نمنحها المزيد من الوقت والمزيد من القوة والهيمنة. وعليه يتوجب منا الإقلاع عن محاكمة الحاضر بأساليب ماضوية، فبدلا من الهرولة للمجهول دعونا ننحاز للدولة الجديدة بخياراتها العادلة المجسدة لمبدأ الإنصاف لكل من طاله الضيم. فدون غلبة العقل والمنطق والمصلحة الجمعية تبقى الحماسة والانتقام مفردات لا تؤسس مطلقًا لحالة يمكن الاعتداد بها أو التأسيس عليها، بل وعلى العكس فلربما أفضت بنا إلى منحدرات سحيقة لم تكن بالحسبان.
محمد علي محسن
متاهة الوحدة والتجزئة.. 1144