كل التجارب التي عملت على إنهاء الحروب، وأغفلت حقيقة أن تحقيق السلام وإنهاء الحرب عملية مترابطة ومتداخلة، لم تحصد غير نتيجة واحدة وهي الخيبة.
وأقل الخيبات درجة كانت في معظم الأحيان هي الانتقال من حرب "البارود" إلى الحرب "الباردة"، بما توفره من شروط وأسباب لحروب لا تتوقف.
شحنة التفاؤل بالسلام في اليمن، التي تبرز بين حين وآخر، والتي يتطلع اليها اليمنيون بترقب وآمال عريضة، غالباً ما تعصف بها محاولات البحث عن سلام يتعايش مع الأسباب التي أنتجت الحرب، أي سلام مفخخ بجولات أخرى من الصراعات والحروب، لأن هذا النوع من السلام لا ينهي الحروب، وإنما يمنح الأطراف المختلفة فرصة لتعبئة قواها لجولات أخرى.
منذ فترة يلاحظ أن الحرب في اليمن أخذت تتجه نحو التبريد مع إخفاق واضح في إطلاق عملية السلام، لا لشيء إلا لأن محاولات إنهاء الحرب لا تصاحبها إرادة لإنهاء أسبابها.
على صعيد آخر، وبصورة تعكس هذا الوضع الملتبس، أخذ المشهد يزدحم بسياسات ذات أهداف متداخلة، وحرائق تشتعل هنا وهناك كتعبير عن عمق وتشعب الأزمة على أكثر من صعيد..
غير أن أبرز مظاهره هو إجهاد ذاكرة اليمنيين بغبار معارك جانبية بهدف نسيان الأسباب التي أغرقت بلدهم في هذه الحرب الكارثية، وعصفت بالجهد الوطني الذي كان يبحث عن مخرج من الأزمات التي أثقلت البلاد بالصراعات، وأنظمة الغلبة، وعدم الاستقرار. وهذا هو الجذر السياسي للمشكلة.
في خضم هذا الوضع، ظهر البيان الأممي الذي قدمه السيد جريفتس إلى مجلس الأمن مؤخراً بلغة حملت معها قدراً من الاعتقاد بأن هناك خطة جاهزة لإحلال السلام في اليمن، وأن هذه الخطة قد تم التشاور بشأنها مع أطراف عدة، يمنية وإقليمية ودولية، مما يعني أن الزمن الذي كان فيه جهد المبعوث الأممي يتوقف عند مجرد الحديث عن "حاجة اليمن إلى السلام"، قد سمح مجلس الأمن بتجاوزه إلى مجهود يترجم المستجدات حول هذه القضية، وأن عليه أن يخطو خطوات عملية لتلبية هذه الحاجة. وشجع على هذا الاعتقاد التصريحات الصادرة مؤخراً من عواصم عربية ذات ارتباط وثيق بالقضية، والتي أكدت على مشاورات ذات دلالات لا يمكن إغفالها حينما يتعين على المتابع أن يقرأ مسارات الأحداث بموضوعية.
ومعه، يمكن القول، أن هذه المبادرة لن تكون على غرار المشاورات السابقة في كل من جنيف والكويت واستوكهولم، ولكنها ستطرح خارطة اتفاق أممية لتحقيق السلام وإنهاء الحرب من منطلق أن أطراف القضية لم يتركوا خياراً أمام المجتمع الدولي سوى أن يتحمل مسئوليته بموجب القرارات الأممية، ومنها تلك التي تضع اليمن على البند السابع، وسيعاد بناء مكونات هذه العملية على النحو الذي يجعل السلام طريقاً لإنهاء الحرب، أي أن تحقيق السلام سيكون الخطوة الحاسمة نحو إنهاء الحرب.
ولكن سيظل السؤال ملحاً وهو: أي سلام؟
طبعاً هذا ما يفترض أن تتداركه أي مبادرة جادة تبحث عن الحل الدائم والمستقر، والذي يفرض شروطه القائمة على التوافقات الوطنية قبل أن تتدخل مليشيات الحوثي الانقلابية بخياراتها العسكرية.
واستنادا إلى الوقائع التي غيرت كثيراً في المشهد العام، ومنها اتفاق الرياض، هناك من يرى أن هذه الخارطة ستتناول كافة الملفات الأمنية والعسكرية والسياسية وبناء الدولة، وقضية الجنوب، ولن يترك سوى هامش ضيق جدا على حواشيها لتفاهمات جانبية، أما موضوعاتها الرئيسية فلن يسمح لأي طرف بمسها. كما يعتقد أنها ستضع خطة "كيري" القديمة وراءها باعتبارها من الاقتحامات التي أربكت المسار السياسي.
باختصار، يمكن القول إننا أمام وضع لا يختلف عن الحالات المشابهة التي شهدها العالم في مناطق كثيرة، والتي فشلت أطرافها المعنية في حسم نزاعاتها، وهي حالات واجهتها كثير من الأمم، حيث يصر فيها البغي على موقفه ويعجز معه الحق عن ردعه.
والسؤال: هل العالم، بعد خمس سنوات من الحرب، التي تسبب فيها الانقلاب على الشرعية وعلى التوافق الوطني، وتعاظمت معها المأساة الإنسانية في اليمن، لم يعد يرى إمكانية لأي حل لهذا النزاع إلا بتدخل صارم باسم الأوضاع الإنسانية المأساوية؟ ربما، ومؤشرات ذلك كثيرة، وهو ما سيضغط به العالم أجمع حينما يرى أن الحرب لم تعد غير ملهاة لن تفضي إلا إلى مزيد من الكوارث.
ولا شك أن المنحى الذي أخذ يتجه إليه وعي المجتمع الدولي بشأن الأزمة اليمنية قد أخذ يتمحور حول الجانب الإنساني على نحو حاسم، وراح الجذر السياسي يختفي ويتلاشى من المشهد، وهو ما سهل على الجهد الأممي الاستعانة بهذا البعد بإبقاء الجذر السياسي للمشكلة حاضراً، ولكن على نحو ثانوي في التأثير على الحل، مع العلم أن العالم لا يزال يتمسك بشرعية الدولة ورفض الانقلاب.
كثير من الحالات المشابهة جرى فيها تطويق المشكلة السياسية بالبعد الإنساني للضغط على الأطراف للوصول إلى الحل، كما حدث في أثيوبيا، ورواندا والبوسنة والهرسك وغيرها. غير أن هذا الخيار كان دائما ما يحتاج إلى إصلاح جذري في منظومة الحكم تؤمن التمسك بشروط الحل بعيداً عن المراوغات وانتهاز الفرص.
إن إضعاف الجذر السياسي للمشكلة من شأنه بالطبع أن يجعل الحل سطحياً غير متجذر في بنية سياسية وطنية قادرة على حمايته، وهو ما يضع القوى المقاومة للمشروع الإنقلابي الحوثي الإيراني أمام مسئولية لا أعتقد أنهم لا يدركون خطورتها، المهم هو ما يتطلبه هذا الإدراك من عمل لتلافي الخطورة.