سأقول لكم ومن الآخر، فلدينا فئة من النِّاس تنطبق عليها القولة الشعبية: لا تسوق ولا تركب"، فإن منحتهم سلطة بقوا مكانهم معارضة، والعكس صحيح.
يا جماعة الخير ما ينفع وجه بالسلطة وآخر بالمعارضة، فإما تكونون سلطة وتتحملون تبعاتها وواجباتها، وإما أن تغادرونها ليتسنى للآخرين تحمل مسؤولياتهم أمام العباد والبلاد.
تعبنا من هذه الوضعية الغريبة والمختلة كليًا عن كل أدبيات السياسة، وأقول تعبنا رغم يقيني الذي لا يتزعزع بأن المصيبة ليست بالفئة والجماعة، فحسب، وإنما بعمى الاتباع وتعصبهم.
نعم، فئة قليلة، لكنها فاعلة ومؤثرة في الصراعات البينية، وفي إعاقة عجلة التطور، فبرغم تجاربها الفاشلة، لم تتعب.. ولم تتعلم.. ولم تسأم، من تكرار تلك الشعارات والهتافات والخطب السمجة التي تذكرنا بحقبة الستينات والسبعينات التي لطالما ظننا أن شطحاتها ونزقها وممارساتها ذهبت والى غير عودة.
فبرغم ما زخرت به تلك الحقبة التاريخية من تجارب فاشلة ومن أسماء والقاب وعنتريات وقرابين؛ إلَّا أن الحاضر يكاد نسخة مطابقة من ذاك النهج الاستبدادي الكارثي، فما زالت العقلية هي ذاتها وان اختلفت الأدوات والوسائل.
فجوهر المشكل هو أن من يتصدر المشهد الآن هم ورثاء خطيئة الأمس، فحين عجزوا عن إثبات ذاتهم كقوة مدنية متحضرة، وعن العيش في بيئة مسالمة مستقرة؛ كان ولابد لهم من السيطرة بالقوة وبتخدير العباد بشعارات وخطب جوفاء بليدة لا تشبع جائعًا أو تغني فقيرًا.
وطبعًا لا يقتصر الأمر هنا على طرف بعينه، فمعظم المتصارعين الآن في حقيقة هم لا يتورعون عن استعادة أو استحضار ماضٍ سقط من روزنامة التواريخ، لكنه باقٍ ومستيقظ في ذهنية القادة والاتباع المتقاتلين الآن.
والمحزن في الأمر أنهم جميعًا يتشاطرون ذبح الوطن والمواطن، فلا فارق هنا بين من يسيطر على عدن أو صنعاء أو يصدر أوامره من الرياض أو ابدو ظبي. تأملوا فقط في وجوه قادة المرحلة أو في شعاراتها ورجالها؛ لتدركوا حقيقة العضال المزمن القاتل لروح البلد ولتطلعات وأحلام أجياله.
ومع هذه المأساة ما زلنا "محلك سر"؛ مهووسون للغاية بالخطب الرعناء المستترة بخفايا وعاهات نفسية وذهنية، كما ويأسرنا الصوت المستهتر العابث والمجنون، فلقد برهنت التجارب الفارطة أن لدينا مناعة قوية غير قابلة بمفاهيم واقعية مؤسسة لدولة عصرية مستقرة وناهضة، فهذه الممانعة كان من إفرازاتها السلبية أنها أجبرت الكثير للتكيف مع الفوضى والعبث والأزمات والسلاح والفساد والعنف والإرهاب وسواها من مفردات ما قبل الدولة والحداثة.
بل، والأخطر من ذلك، أن هناك من يقاوم وبضراوة لكل أشكال التعاطي مع معاني أكثر قيمة وأهمية للإنسان وللدولة مثل التنمية والتسامح والاستقرار والنظام والدمقرطة والتعايش والرفاهية والمصالح والعدالة والحريات وسواها من المفاهيم الغائبة في هذه البلاد..
شخصيًا، سئمت.. مللت.. كفرت بهذه الوضعية السيئة المخجلة. كما وأيقنت بأن الذي لا ينفع أُمُّه أو أهله أو جيرانه فمن الاستحالة بمكان أن ينتظر منه بناء وطن ودولة..