خلال ثلاثة أعوام لم يستلم أبطال الجيش الوطني سوى جزءاً بسيطاً من مرتباته، تأتي المرتبات بعد نحو سبعة أشهر، يحرص بعض موظفي مالية الجيش على التأكيد للجنود، بين كل فترة وأخرى، أن الحكومة مدينة لهم برواتب سنة ونصف مثلاً، قال أحدهم للجندي وهو يناوله رزمتين من أبو خمسمائة ريال، هذا راتب شهر ١،٢ ٢٠١٨م، انتبه عاد معك حق سنة ونصف، قال له وهو على مشارف ٢٠٢٠.. أخذها الجندي وغادر، لم يعد يهمه مقدارها ولا عن أي شهر هي، هناك مهمة وطنية عظيمة تنتظره، وهذه الوريقات ترفع عنه بعض الحرج وإزعاج الجشعين من أصحاب البيوت وصاحب البقالة وكثير من الالتزامات الضرورية.
يتلهف هذا المناضل الأسطوري العظيم لتحرير كل شبر من بلاده، ذات مساء كان جندياً بطلاً يتنقل بين تباب نهم بعد أن وقف طويلاً عند الغروب وسمّر ناظريه على أنوار صنعاء الخافتة وقد غشاها الليل بسواد حالك ضاعف الوجع إذ جسد الظلام الكهنوتي السلالي المحتل لعاصمة القلوب الوالهة، زفر بشدة وصدره مكتظ بالشوق لخوض معركة التحرير، فجأة يأتي خبر كالصاعقة يبدد كل آمال عريضة نسجها تلك الليالي وهو يتنفس نسيم صنعاء، كان دخان معارك إسقاط عدن مرة ثانية في أيدي مليشيا الانقلاب الجديد المدعوم من الإمارات يغطي الأفق الذي كانت صنعاء على مرمى البصر منه، لقد حجبتها العواصف الرملية القادمة من فوضى الانتقالي في عدن، حينها أدرك الحارس الوفي أن طعنة غادرة ستبعده عن صنعاء مسافة ليست بالقصيرة، وأن المعركة دخلت فصل مظلم في متاهة بلا أفق ولا بوصلة لكل أطرافها المفترضون!
على مشارف عدن قصفت طائرات إف١٦ الإماراتية نحو ٣٠٠ جندي، قتلت منهم نصفهم، كانت هذه المرة الأولى التي تعترف فيها حكومة الإمارات باستهدافها للجيش الوطني وقتل ضباطه وقادته وجنوده الأبطال!، بعدها عملت كل الأطراف الدولية والإقليمية على غسل الدم اليمني من أيادي الإمارات، وجاء اتفاق الرياض لتعقيم آثار تلك الجريمة!
قبل تأسيس الجيش الوطني وأثناء استلامه الرواتب بشكل متقطع ، وبعد فتح مئات الأضرحة في مقبرة الشهداء، كان هناك ما يسمى مجلس النواب، وكان يفترض أن يكون هو صوت الشعب وضمير الوطن، وأن يبقى حارس الدستور والسيادة وبوابة العبور الآمن، كان المفترض أن يكون صاحب القرار الفعلي وممثل إرادة اليمنيين، لكنه غاب خلف الجبل حين مات آلاف الأطفال من الجوع والمرض وحين طحن الفقر عظام اليمنيين، وعاد ليجتمع على اكوم جثث الشهداء وفوق ركام بلد ممزق، اجتمع لساعات فقط وانتزع منصب رئيس له، وافتتح حسابا في موقع تويتر لسلطان البركاني الذي رضي بهذا الدور الأسود بلا كرسي ولا ميكروفون ولا حتى مطرقة ولو ملخاخ!.
مات اليمنيون جوعا حين ماتت أصواتهم في صناديق الاقتراع، وامتنع النواب ممثلي الشعب عن الخوض في الشأن اليمني، تعقدت القضية اليمنية حين انعقد لسان البركاني ومجلسه الغارق في تفاصيل تافهة ، تافهة فقط هكذا يكفي احتراما لرمزية المؤسسة الأهم في بلادنا بحسب المهام الموكلة لهم في الدستور، فقط ولو أن الواقع وحجم الفجيعة وهول ما وصلنا اليه يستحق اطلاق كل وصف لن يرمم ما فقدناه لكنه يحفر العار والخيانة في جدار المرحلة المخذولة في تاريخ شعبنا وامتنا.
طارق في الرياض، التقى سمو الأمير ولم يقبل الاعتراف بشرعية الرئيس هادي، والأحزاب الوطنية كل فترة تلتقي لتبحث أمنيات المفسبكين وتغريداتهم التي تحرجهم وتكدر عليهم غربتهم بضرورة توحيد الصف!، وبعد كتابة عشرات المحاضر والمبادئ والصياغات والصراعات يخرجون ببيان هزيل يكون أكبر مكاسبه انتزاع منصب جديد يشبه منصب سلطان البركاني، فأصبحنا نمتلك رؤساء كثر، وتوصيفات ومناصب، كلها شكلية وكلها مغتربة، ليست غربة عن التراب الوطنية فحسب، لكنها فوق ذاك تغريب للقرار والسيادة والوجع ومؤسسات الدولة وحلم اليمنيين.
يقتل قاسم سليماني مطلع يناير الجاري، وينسكب دمه على العلم اليمني في صنعاء وأخواتها فيغرقه ويمحو ألوانه التي كانت مليشيا الحوثي تحاول خداع الشعب اليمني بوضعه غطاء لجرائمها البشعة، بعد مقتل المجرم الأخطر سليماني انقشع الغطاء وظهر عبده الحوثي ايرانيا خالصا مجرد قاتل مستأجر ينفذ توجيهات سادته في طهران وضاحية بيروت الجنوبية، غسل دم سليماني كل أكاذيب الحوثيين، فضحهم في وضح النهار ، دفعهم للصراخ بحقيقتهم ودورهم الحقيقي، أخرج عيسى الليث لينوح على دمه ويعلن بصراحة متناهية أن مئات الآلاف من اليمنيين لا وزن لحياتهم ولا قيمة لدمائهم ولا فائدة من وجودهم بعد خسارة سليماني الفادحة، هكذا يبكي عيسى الليث بحرقة ويصف الخسارة بالفادحة وأنها تستحق التضحية بالشعب اليمني عن بكرة أبيه، قبل مقتل سليماني كان عنوان الصراع محاربة العدوان!
اليمنيون اليوم أفاقوا غاضبين، تكتظ في صدورهم نيران الحزن والقهر والخديعة والفجيعة والغيظ والحنق، فاجعة معسكر الاستقبال أعقبت وهم أكاذيب غريفث بالأمس في اوقح فترة لاقبح مندوب، نواح أسر الجنود الذين سقطوا ليلة أمس نكأت جراح اليمنيين من جديد، لا تزال بعض أفواههم فاغرة مثل باب القرية حسب وصف عجائز قريتنا حين تريد السخرية من طفلها الذي يبكي بلا طائل ولا جدوى، وكأنها أول جريمة نموت فيها بالجملة.
بلادنا اليوم مكشوفة الظهر بلا رئاسة حقيقية، أو حكومة ولو شكلية، بلا قرار، أو بالأصح بلا مؤسسات تصنع القرار، والخطر كبير جدا، والخطر القادم اعني، خطر أكبر مما مضى، وحرّي بشعب عظيم كالشعب اليمني أن يقف بمسؤولية تاريخية، وأن يخلق حلا ويشعل ضوءا في وسط هذه العواصف، وأن ينسى البركاني ومجلسه وكل الشكليات المغتربة وأن يبدأ بترتيب حقيقي ومدروس لحجر الزاوية للمشروع الوطني المنقذ، وأن يفكر في تكوين مؤتمر وطني جامع يحدد أولويات اليمن ويعزز علاقاته بأشقائه وكل من يريد مساعدته في هذه المحنة الخطيرة فربما تكون البداية للخروج من هذا النفق المظلم تأسيس شرعية فاعلة تتكون من أبناء الأرض وتحمي الأرض والعرض وتستعيد الجمهورية والهوية والذات اليمنية لننجو نحن كيمنيين ويأمن جيراننا شر ما تخطط له بريطانيا وكل الأمم التي مبعوثها لتمزيق اليمن غريفث.