ظلت مأرب، نصف قرن من قيام الجمهورية اليمنية، وخصوصا طوال ثلاثة عقود من حكم نظام علي عبد الله صالح، مجرّد محافظة غير آمنة، وغير مستقرة، ومصدر خطر دائم. هكذا كان يشاع عنها وينظر إليها نظام صالح، في الوقت الذي كانت تمثل مأرب موردا ماليا مهما ووحيدا لهذه السلطة، طوال العقود الثلاثة الماضية، وخصوصا منذ اكتشاف النفط والغاز فيها، منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
تمثل مأرب في المخيال والذاكرة اليمنية الشعبية والتاريخية رحم الحضارات اليمنية القديمة وموطنها الأسطوري الأول، ومنجما لمعدن اليمني الأصيل، ما انعكس في رؤية اليمنيين إلى مأرب وقبائلها وتراثها القبلي خزانة للروح والقيم والحضارة اليمنية كلها، وهو ما يتجلّى كثيرا في شخصية المأربي القبلية المعجونة بخميرة التمدّن والقابلة للتطور والانسجام السريع مع كل قيم الدولة وقوانينها، بفعل خميرة الملوك السبئيين، المعجونة في سلوكياتهم وقيمهم.
حاول نظام صالح، وسلطة الهاشميين الزيدية العميقة والمخترقة كل سلطات الجمهوريين المتعاقبة منذ ثورة سبتمبر/ أيلول (1962) وحتى عودة الإمامة في 21 سبتمبر 2014، تشويه هذه الحقيقة الواضحة، ورسم صورة مغايرة ومشوهه تماما عن مأرب وقبائلها اليمانية القحطانية، باعتبارها قبائل بدوية متخلفة، وغارقة في الفوضى والاقتتال لأتفه الأسباب، فضلا عن تكريس صورة نمطية سيئة عن أهلها، باعتبارهم مجرّد قطاعي طرق ومخرّبين ومهربي ممنوعات، ليس إلا.
ظلت هذه الصورة النمطية تتعزّز عن مأرب طوال فترة حكم صالح، وظنوا أنهم بتكريس مثل
"على قادة مأرب اليوم وسلطتها أن يتصرّفوا كدولة، وأن يغادروا مربع تفكير ما قبل 2014"
هذه الصورة المشوهة والمغلوطة، يمكّنهم أن ينالوا من صورة مأرب في المخيال الشعبي اليمني العام، تلك الصورة الأسطورية باذخة الحضور والتجلي والبهاء، كأنصع ما تزخر به الذاكرة التاريخية من أمجاد وقيم وشهامة الإنسان اليمني الأول، صانع الحضارات وبانيها ومروّض الصحاري والجبال.
كان نظام صالح، وكذا شخوص دولته العميقة، وخصوصا جناح الهاشمية السياسية، الممسكين بأهم مفاصل ذلك النظام، كانوا يدركون جيدا صلابة الشخصية المأربية، واستعصاءها على الترويض والتدجين والإخضاع، كالذي فعله صالح مع معظم القبائل اليمنية، فضلا عن أن الهاشمية السياسية كانت ترى في مأرب قلعةً متقدمة في مشروع اليمنيين الكبير، مشروع جمهورية الكرامة التي ناضل من أجلها اليمنيون طويلا، وكان حادي نضالهم المسلح مبكرا، الشيخ علي ناصر القردعي، بطل الثورة الدستورية الأولى، ثورة فبراير1948.
وانطلاقا من هذه الخلفية التاريخية لمأرب وقبائلها، يمكن تفسير تلك الحساسية المفرطة والكبيرة لدى الشخصية المأربية تجاه الإمامة وكل ما يتعلق بها، فرأينا كيف استبقت مأرب الجميع لتأسيس المطارح القبلية مبكرا في نخلة والسحيل، لتجميع قبائلها هناك، استعدادا لأي طارئ قد ينال من دولة اليمنيين وجمهوريتهم، فكانت مأرب عند وعدها حصنا كبيرا لجمهورية اليمنيين، مقدمةً قوافل الشهداء وعشرات القادة الكبار الذين شكلوا فارقا كبيرا في معركة استعادة اليمنيين جمهوريتهم، كالشهيد القائد عبد الرب الشدادي ورفيقه أحمد العقيلي، وغيرهما كثيرون ممن لا يزالون في الصفوف الأولى لقيادة معركة اليمنيين الراهنة.
تكتب الباحثة اليمنية ندى الدوسري أن مأرب وقبائلها هي التي غيرت نمط تفكيرها وتصوراتها عن القبيلة اليمنية ككل، وأنها، من خلال هذا المدخل، أعادت اكتشاف اليمن، بعد أن كانت لديها صورة نمطية مختلفة ومشوشة عنه، ككل الذين لم يقتربوا حقيقة من هذه القبائل، ولم يحاولوا فهمها من داخلها. وهذا ما وجدته، منذ لحظة مبكرة لثورة 11 فبراير التي فتحت لي آفاق مأرب واسعة، وزرتها كثيرا، واقتربت من كثيرين من أبنائها الذين مثلوا لي صورة حقيقية عن نمط تفكير قبلي مدني متقدّم، في حين ظل بعضهم يرى أنه لا يمكن للقبلي أن يكون داعية مدنية للدولة والنظام والقانون، كما هو المأربي.
تمثل مأرب اليوم العاصمة الحقيقية لليمن وشرعيتها بعد إسقاط العاصمة المؤقتة عدن في يد ما
"مأرب وقبائلها هي التي غيرت نمط تفكيرها وتصوراتها عن القبيلة اليمنية ككل"
يسمّى المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، حيث ظلت مأرب بمثابة المدينة اليمنية الوحيدة التي تحضر فيها سلطة الدولة اليمنية ومؤسساتها، فضلا عما شكلته من ملاذ آمن لكل اليمنيين من مختلف محافظات الجمهورية الذين رأوا في مأرب متراسهم الأخير لاستعادة وطنهم ودولتهم. وقد ساهم مثل هذا التوجه، بشكل كبير، في حدوث تحوّلات سياسية واجتماعية كبرى لمأرب على مدى السنوات الخمس الماضية من الحرب، في ما يتعلق بتحوّلها من سوق لقبائل مأرب وعاصمة لمحافظتهم قليلة السكان، إلى عاصمة لليمنيين كلهم، ويقطنها نحو مليوني نسمة، بعد أن كان سكان المدينة لا يتجاوزون خمسين ألف نسمة.
أحدث هذا التوافد الكبير لليمنيين نحو مأرب تحولا كبيرا في مأرب، وأثبتت هذه التحولات صدقية المقولة عن طبيعة الشخصية المأربية المعجونة بروح المدنية والتمدّن، والمسكونة بهاجس الدولة والنظام والقانون. هذه الصفة التي كان بعضهم يكرّس نقيضها عن الشخصية المأربية التي أثبتت اليوم مدى مدنيتها وسرعة تحولاتها المدنية المتسارعة أيضاً.
يعوّل اليمنيون اليوم كثيرا على هذه المحافظة، باعتبارها خزينتهم التاريخية، وصندوق أسرارهم وأرض أساطير أجدادهم التي تشكل ذاكرتهم الحضارية والشعبية معا. ومن هنا، تأتي كل هذه التناقضات من الثقة بمأرب والخوف عليها معا، وبالتالي مسؤولية مأرب اليوم كبيرة وعظيمة، تجاه نفسها خصوصا، وتجاه اليمنيين عموما، فهي اليوم ما تبقى لهم من "جمهورية سبتمبر" بكل عنفوانها، وكل ضعفها وتناقضاتها. مأرب اليوم بحاجة إلى وقفه حقيقية من قادتها ومسؤوليها، وأن يكونوا على قدر المسؤولية، وحجم التحدّي الذي تواجهه هذه المدينة التي تتجسّد فيها كل اليمن، بكل تناقضاتها وتعقيداتها.
ثمّة أشياء كثيرة يجب أن تقال وتطرح أمام قيادة مأرب اليوم، ويجب أن يعوها جيدا، وفي
"تمثل مأرب اليوم العاصمة الحقيقية لليمن وشرعيتها بعد إسقاط العاصمة المؤقتة عدن"
مقدمتها أنهم اليوم لم يعودوا تلك القبائل المأربية المناط بها الدفاع عن نفسها فحسب، بل الدفاع عن كل اليمنيين، وأنهم لم يعودوا تلك القبائل الكريمة التي تحرّكها أعرافها وأسلافها، وإنما أصبحوا دولةً تمثل كل اليمنيين، وعليهم أن يتعاطوا سياسة واقعية في كل ما يدور حولهم، وأن يبتعدوا عن المثاليات القبلية في ملفات مأرب واليمن ككل الكثيرة.
على قادة مأرب اليوم وسلطتها أن يتصرّفوا كدولة، وأن يغادروا مربع تفكير ما قبل 2014، باعتبارها محافظة قبلية، تابعة للسلطة المركزية في صنعاء أو عدن، فهم اليوم ما تبقى لليمنيين من شرعية على الأرض، وأنهم المسؤولون أولا وأخيرا عن أمن (وسلامة) هذه المحافظة والمحافظات المحرّرة من حولهم، كالجوف وشبوة، وأن يتصرّفوا وفقا لهذه اللحظة في ما يتعلق بخزينة الدولة التي يجب أن تخصص لبناء هذه المحافظة، وصرف مرتبات جيشها وأمنها أولا، للحفاظ على مأرب كبؤبؤ عين الجمهورية اليمنية المبصرة والمتبقية.
على سلطة مأرب مغادرة مربع التفكير كسلطة محلية والتفكير بعقلية سلطة الجمهورية اليمنية الشرعية الوحيدة المتبقية على الأرض، والتحلي بالحيطة والنباهة والحذر، أكثر من أي وقت مضى، فكل ما يحيط بهم مقلقٌ جدا، وعليهم أن لا يعوّلوا سوى على أنفسهم وإمكاناتهم في إدارة معركتهم ومعركة اليمنيين جميعا، فكل رهان اليمنيين اليوم عليهم في انبعاثة جديدة تعيد كوكب اليمن إلى مداره الصحيح، وأي تقصير هنا أو سوء تقدير لن يكون مسموحا ولا مغفورا، لأنه سيقذف باليمن قرونا خارج الزمن والتاريخ.
21 فبراير 2020