الحزبية في الشمال كانت شيئًا مُحرَّمًا، ولذلك كنا نسمع بعد التوحد السياسي عام ١٩٩٠م أصواتًا ساخطة غاضبة معتبرة التعددية الحزبية عدوانًا وبغيًا على الله ودينه وشريعته.
فلكم سمعت وقتها دعاة وهم يحرضون أنصارهم وعامة البسطاء قائلين: هنالك فقط حزب الله وحزب الشيطان..
فمن الذي حرَّم الحزبية ومن الذي حلَّلَّها وأجازها؟؟ أكيد البشر وليس الله..
وإذا ما مثلنا جنوبًا، فقبل الوحدة كانت الاصوات صاخبة غاضبة من دعوة الراحل الشهيد جار الله عمر إلى التعددية السياسية وإشاعة الحريات، ولكم تحمـَّل الرجل من الافتراءات والتخوين.
البعض وصف المسألة تعديًا وخيانة للاشتراكية، وبرغم محاولات الرجل لإقناعهم بضرورة التغيير، وكذا اثباته لهم بإن اشتراكية روسيا كانت متعددة سياسيًا وقابلة بوجود معارضة سياسية، لولا محاولة الاغتيال لقائد الثورة وملهمها " لينين " قبيل وفاته عام ١٩٢٤م..
فمن الذي شرعن الاستبداد السياسي ومن الذي قال إن الدولة العادلة لا تتعايش مع الديمقراطية والتعددية والحريات الصحافية ؟؟؟ المؤكد أنهم البشر وليس الله.
اليوم، وكأن التاريخ يعيد نفسه وإن بصورة مغايرة؛ فهناك من لا يتعلم من تجارب ماضيه، أو يمكنه التسليم بمعطيات موضوعية حاضرة بقوة، فلا مندوحة لديه إذا ما وقف بوجه عجلة الزمن، في محاولة يائسة لكبح حركة دورانها..
فأغلب الفصائل تذبح اليمنيين قربانًا لقناعات عتيقة مشوهة وزائفة، وهذه الاعتقادات الخاطئة دفعت بالبلاد والعباد إلى خوض معركة مكلفة وخاسرة، إنابة عن الله، وإنابة عن الشعب..
فمن سيتصدى لهم؟ ومن سيوقفهم؟ ومن سيقول لهم أن الله لم يعط سلطة وقوة لأنبيائه ورسله رغم ما لاقوه من صنوف الأذى والقتل؛ فكيف بشخص عادي مثل الكهنوتي الحوثي أو سواه من ادعياء الوصاية عن رب السماء.
كما والمواطن اليمني وعلى جهله وفقره وتخلفه لم يمنح صوته أو يوهب حياته لجلاد أو طاغية أو مستبد أو فاسد، فمهما تراءى للبعض ان هذا الشعب خذله في لحظات تاريخية وما أكثرها.
وفي المنتهى سيأتي اليوم الذي ستسقط وتزول فيه توابيت الأفكار البالية، وحتمًا ستنتصر فيه الأفكار الجديدة.
إنَّه منطق الحاجة والضرورة والوقت، فمن يظن ان بمقدوره الوقوف بوجه الزمن وحتمياته فإنما يخادع ويضلل ذاته، فالواقع اننا جميعًا ازاء لحظة تاريخية فارقة، ما يستوجب الاختيار؛ فإما دولة يمنية جديدة نقيض كل ما رسب ذهنًا أو ساد سلوكًا.
وإما المضي خلف الافكار القديمة الرافضة التعاطي مع المتغيرات الحاصلة التي افرزتها ثلاثة عقود، كما وزادتها الحرب تعقيدًا وتأزمٌا لم يكن بالحسبان..
فالحديث الآن عن دولة اتحادية فيدرالية يماثل الحديث عن التعددية الحزبية في الجنوب إبان طغيان شعار " فشلت المؤامرة وانتصر الحزب “. كما ويشبه الدعوة للحزبية في صنعاء في حقبة الثمانينات وفي ظل هيمنة الخطاب اللاهوتي المُشيطين لكل الأفكار الحداثية المتحررة من أغلال الدولة الدينية.
العجيب في المسألة ان القوى المناوئة للتعددية السياسية في الجنوب واليمن عمومًا هي ذاتها المنافحة اليوم وبشراسة كيما يبقي الإنسان اليمني مستوطنًا ماضيه بأفكاره وأحداثه وأزماته ومآسيه.
فلا فارق بين صحيفة “الثوري " في عدن أو صحيفة " الثورة " في صنعاء، وبين صحف عدن وصنعاء في الوقت الحاضر، فكلاهما خاضا حربًا ضروسًا ضد فكرة التعددية وصاحبها.
وكلاهما اليوم تؤججان مشاعر العداوة والرفض لفكرة الدولة اليمنية التي تعثرت ولادتها بسبب هذه الممانعة المتدثرة بأغطية عدة، فحينًا بتكليف من السماء، وحينًا بتفويض من العباد.