لدي تفسير واحد لما حدث خلال الأشهر الفارطة، وهو أن طرفا النزاع في المناطق المحررة في موقف لا يُحسد عليه، فكلاهما يريد الخروج من الأزمة والجلوس للحوار ولكن بمنطق: « أثبت للسعودية أنك مسيطر وأنك جدير بدعمها «.فبعد أن أقنعت الإمارات السعودية بأنه ما من حل يرتجى في الجنوب غير الحوار بين الشرعية والانتقالي، كان ولابد أن ينسحب ذلك على وضعية كل طرف ميدانيًا..
في المستهل ذهب قادة الانتقالي إلى جدة، ومن ثم الرياض وبيدهم ورقة العاصمة المؤقتة وجوارها؛ فأبت الشرعية حكومة ورئاسة إلَّا أن ترفض هكذا إذلال، ورفضها هذا له مبرره السياسي والأخلاقي؛ فكيف وعلام تحاور وهي خاسرة لآخر ما تبقي لها من وجود وان كان معنويًا وشكليًا فقط..
أرادت الشرعية تحقيق مكاسب عسكرية تقوَّي من مركزها أمام الدولة الحاضنة؛ فكان لها تحقيق بعض من هذه المكاسب ومن خلال تفاهمات ووعود قُطعت لها من الجانب السعودي، وتجلَّت وقتها ببيان الخارجيتين السعودية والإمارتية الذي جدد دعمه للشرعية وللدولة اليمنية الموحدة ولسيادتها واستقرارها.
التوافق المحرز وقتئذ ولد ميتًا، فبعد انتهاء لفترة المقررة بيوم ٥ فبراير المنصرم، تكشفت حقيقة الأزمة العميقة والشائكة بين شركاء اتفاق الرياض، فلا الحكومة عادت وفق الآلية المتوافق عليها أو أن أيًا من بنود الاتفاق تم تنفيذه، رغم أن تلك المضامين تم تزمينها.
وما حدث كان متوقعًا، فالثقة غائبة بين الجانبين، كما ولكل منهما غاية ومنهاج وممول وداعم، وهذا كان سببًا وهريًا في تأخر وتأجيل التنفيذ للاتفاق الذي اثبتت الأيام التالية ان توقيعه تم برغبة وإلحاح من قادة المملكة، وليس لأن الطرفان توافرت لديهما النية والإرادة والقرار.
في الفترة المنصرمة أخذت الانتقالي نشوة الاستيلاء على مدن عدن وأبين معقل الرئيس هادي، دونما يضع بحسبانه وجوده المختل في شبوة بسبب تركيبة قوته « النخبة الشبوانية « وكذا تركيبة المجتمع القبلي الذي هو أقرب لمأرب والبيضاء من عدن وحضرموت.
وفضلا عن هذه الأسباب، هناك ولاءات لنخب شبوة وقادتها والموزعة ما بين القبيلة والجغرافيا والتنظيم السياسي، فضلًا عن المواقف السياسية لم تكن على اساس القناعات الفكرية فحسب وانما في الأغلب تشكلت وفق الحسابات الشخصية والتاريخية والنفعية والجهوية التي برزت حاضرة وبقوة في وجه الطرفين.
ولهذه الاسباب مجتمعة حدثت نكسة شبوة، محفزة بذلك القوى المؤيدة للشرعية، بشقيها السياسي الحزبي والاجتماعي القبلي الجهوي.
رأت الشرعية بتلك النكسة فرصة مواتية للمضي قدمًا ناحية ابين وعدن، مستغلة تحول الموقف الإيجابي للسعودية وإعلامها، وكذا حالة السخط الشعبي العارم وان كان ضمنيًا وإعلاميًا، فلم يصل بعد هذا السخط لحد تكوين قوة شعبية منظمة وموازية لحجم المشكلات والتطلعات.
ناهيك عن توظيف مناطقي للأحداث، بحيث تم استغلال تواريخ ماضوية وحاضرة لشحن اتباع الشرعية في شبوة وأبين، مكرسة فيهم نزعة الثأر والانتقام لما حصل لهؤلاء ماضيًا وحاضرًا.
وهذه طريقة قد تبدو ليست لائقة ولا يجوز سلوكها من طرف يدَّعي المشروعية السياسية، كما ويحمل على كاهله غاية استعادة الدولة المنقلب عليها من طرف يفتقر لهذه المشروعية السياسية والقانونية.
يقابل هذه السلوكيات الخاطئة للشرعية؛ كان أداء وأدوات الانتقالي أسوأ بكثير، إذ وصمت ممارساته بالأفعال المشينة الخارجة عن النظام، وفي رأسها ملشنة الجيش والأمن، وخوض مواجهات عنيفة بأدوات مناطقية جهوية لا ترتقي لمصاف الدولة المنشودة في أدبيات وخطاب المجلس الانتقالي.
المهم في المسألة برمتها هو أن كل طرف اشتغل على مبدأ مكيافيلي « الغاية تبرر الوسيلة « اعتقادًا منهما « الأثنان « أنهما سيكونا في وضعية مريحة ومرجحة لهما في اي حوار قابل ترعاه السعودية أو الأمم المتحدة.
ما يجري في أبين اليوم يمكن اعتباره صورة مكررة لما حدث قبلها في شبوة أو عدن، فكل طرف يضغط في محاولة منه لبسط نفوذه وزيادة فرصه لدى الداعم الممول.
وبرغم ان أبين اليوم ليست أبين الأمس، وهي أقرب لشبوة، منها الى عدن ولحج والضالع؛ إلَّا ان نقل المعركة الى هناك يأتي في سياق السيطرة على عدن، لهذا يستميت الانتقالي واتباعه في حفظ ولو على مساحة رمال تحفظ لهم وجودهم في عدن، وجميعنا يدرك ان اي معركة تحرير لعدن ستكون كسابقاتها، فمنطلقها من أبين ولا سواها.
في المنتهى كلاهما سيحاور ولكن وفق منطقه المتكأ على حيثيات ميدانية عسكرية، وغايته السيطرة على السلطة وادواتها، وهذا بالضبط جوهر التطورات الدراماتيكية الحاصلة خلال الفترة الفارطة.
ما غفلة الطرفان يتضح الان وهما في غمرة معركة إثبات وجود على الأرض، فكلاهما، السلطة الشرعية والمجلس الانتقالي لا يستطيعان تجاوز أحدهما الآخر مهما بدت الدروب سالكة وممكنة العبور.
اما الشيء الخطر في المسألة فكلاهما لا يملكان قرارهما، وكلاهما لا يستغنيان عن دعم التحالف أو على الأقل دولة فيه، وكلاهما يدعيان تمثيلهما للجنوب وان اختلفا في اجندتهما وادواتهما وحتى غايتهما.
كما والمؤسف أن كلاهما حققا ما حققا بفضل شراكة الضرورة، لهذا لن يستطيعا التفرد بالسلطة مهما بدت الاغراءات جاذبة ومغرية، ناهيك ان الطرفين ربما غفلا حقيقة انه ما من طرف إلَّا ولديه عوامل ضعف وقوة. كما وكلاهما اٌسٌتغلا وبشكل عبثي لخوض معارك ثانوية وتصفية حسابات انابة عن اخرين.
وهذه النوعية من التكتيكات العفوية والمرتجلة تعد عوامل طارئة ومتبدلة يصعب البناء أو التأسيس عليها، بل وعلى العكس فقد تنهار وتزول ما بقي اعتمادها على الوافد الداعم أكثر من اعتمادها على الداخل.
ويكفي الإشارة هنا إلى أن اتفاق الرياض تزامن مع احتقان نشأ وقتئذ في شبوة، والآن في أبين يتكرر مشهد العنف، وفيما المشاورات تجري لإعلان الحكومة المنوط بها تسيير الأعمال التنفيذية في المحافظات اليمنية المحررة.
وخلاصة الكلام الآن هو أن التوافق حول حكومة شراكة لا يعدو عن كونه ترحيلًا لأزمة وفتحًا لأزمات قابلة، فمن يظن ان حكومة كفاءات أو انقاذ أو محاصصة سيكون بمقدورها ادارة الحالة اليمنية ومن العاصمة المؤقتة عدن؛ فذاك انه يعيش في البرزخ وليس الواقع الفوضوي الذي يستلزمه ادارة سياسية واحدة ومسيطرة، كما وغايته الدولة اليمنية الواحدة ولا سواها.
دون التوافق على رؤية واحدة وواضحة وتحت راية استعادة وتجسيد الدولة اليمنية ومؤسساتها في عدن وبقية المحافظات المحررة، فإن أي سلطة او حكومة يصير فعلهما مجرد محاولة عبثية لتأزيم المأزم.
كما وسيكون وجودهما في عدن بلا قيمة او منفعة حقيقية للسكان المحليين الذين تجرعوا مرارة القوى المتصارعة، وذاقوا ويلات الانقسام والعنف وفقدان النظام العام وتعطيل الخدمات وسواها من المسائل الحيوية الغائبة مذ اللحظة الأولى التي اخذ كل فصيل فيها يلهج ويمضي في دروب بعيدة وشائكة وقاتلة..