اسفرت السنوات الاربع من حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي أن اليسار الامريكي المتشدد في الحزب الديمقراطي الأمريكي، بقيادة ساندرز، أصبح أكثر قوة وتأثير مما كان عليه في صياغة التوجهات السياسية الخارجية للإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس جو بايدن.
لا نستطيع أن نقول اليوم ، وفي ظل ما شهدته الفترة الماضية من تنامي حدة الاستقطاب الإيديولوجي في المجتمع الأمريكي، أن الدبلوماسية الامريكية ستتخلص عما قريب من هذا الاستقطاب لتعيد بناء سياستها الخارجية بما يتفق مع حاجة العالم إلى ميزان سياسي دولي يتعاطى مع المشاكل الملتهبة في العالم بمعايير لا تتأثر بمثل هذا الاستقطاب الايديولوجي الداخلي للدول العظمى، وإلا فإن هذه الدول تفقد مبرر تدخلها في القضايا الدولية في هذا الزمن الذي تحولت فيه التعددية القطبية من أيدولوجية إلى اقتصادية، وستعيدنا مجدداً إلى حرب باردة جديدة، وإن كانت على هيئة مختلفة عما شهده العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار جدار برلين في العام ١٩٩٠ .
لم يكن وصول بايدن، وهو الديمقراطي المعتدل، الى الحكم حدثاً غير مشهود، فترامب كان قد هيأ نفسه، وهيأ انصاره بقوة لولاية ثانية، ورأينا رد الفعل الذي أقدم عليه اليمين الامريكي المتشدد باقتحام مبنى الكونجرس الامريكي في ٦ يناير ٢٠٢١، والذي شكل سابقة تاريخية في رفض نتائج الانتخابات، وإن بدا أنه كان من المستحيل أن يغير ذلك العمل من نتائج الانتخابات، إلا اقتحام الكونجرس بمثل تلك الطريقة قد ترك ندوباً في الديمقراطية الامريكية وفي المجتمع من زاوية أن "التطرف" بشقيه يضيق بالديمقراطية حينما لا تكون لصالحه، وقد يعمل المستحيل لإرباك المشهد السياسي، بل وتعطيله، إذا تسنى له ذلك.
لاحظ الجميع عشية تنصيب بايدن أن المشهد الاحتفالي الذي عرضته وسائل الاعلام كان مفعما بانفعالات ضخمة، وكان يخفي وراءه وضعاً انقساميا خطيراً في المجتمع، وينبئ بتطورات من شأنها أن تربك إدارة بايدن لسنوات.
كان على الرئيس بايدن أن يبدأ بترتيب أوراقه على النحو التالي:
أوكل للكونجرس مهمة ان يشغل الرئيس السابق ترامب وانصاره بالمحاكمة، التي اتضحت هشاشتها فيما بعد، وفقدت زخمها بعد أن أدت وظيفتها في توجيه رسالة قاسية الى اليمين المتشدد عن حقيقة أن مشروعه الذي كانت تنتظره أربع سنوات واعدة، في حالة نجاح ترامب، قد هزم.
ثم خاطب اليسار المتشدد داخل حزبه بشأن كثير من قضايا العالم الملتهبة بلغة أيديولوجية، ومنها القضية اليمنية، والسلاح النووي الايراني، والعلاقة مع دول المنطقة ذات العلاقة الاستراتيجية مع أمريكا. وجاء خطابه، وبعض خطواته العملية السريعة، معبراً عما يجيش في نفس هذا اليسار من خفقان مبعثه طفرة أيديولوجية حانقة لا تستند إلى قراءة واقعية لأحداث المنطقة بقدر ما هي تعبير رومانسي، يعيد الصراع إلى الحالة الذهنية المستغرقة في معادلات تتغير معطياتها وتتقلص مجاهليها، لكنها تصطدم عند نقطة معينة بالمصالح المادية لدولة كانت الايديولوجيا فيها مجرد حصان جر لهذه المصالح لا أقل ولا أكثر.
عند مخاطبته اليسار الامريكي المتشدد بشأن قضايا المنطقة بذلك الاسلوب الذي بدا متداخلاً ومتشابكا، عنوانه الرئيسي "وقف الحرب في اليمن"، وكانت هذه دعوة يشكر عليها، ومعادله هو الاتفاق النووي الايراني، وكان هذا تعقيداً لوقف الحرب فالربط يجعل وقف الحرب لعبة ايرانية ويخرجها من المسار الطبيعي إلى مسار أكثر تعقيداً وتشابكاً مع مشاكل إيران في المنطقة.
أي أنه وضع في الفك الأيمن من الفم قطعة حلوى ووضع في الفك الأيسر حصى.
أما أدوات وقف الحرب فقد تمثلت في تعيين مبعوث أمريكي خاص بالقضية اليمنية، وكانت هذه خطوة إيجابية، ووقف بيع السلاح لدول تحالف دعم الشرعية، وكانت هذه خطوة، بتقدير واقع الحرب ومساره في اللحظة الراهنة لصالح استمرار الحرب، لأن الحوثيين وإيران هم من يرفضون وقف الحرب في اللحظة الراهنة، ولذلك فإنه لا يوجد تساوق بين وقف بيع السلاح من ناحية، والاستجابة لوقف الحرب من ناحية أخرى، مما يعني أن القرار كان متجهاً صوب تصحيح ما اعتبره الديمقراطيون المتشددون مساراً خاطئاً لإدارة ترامب في المنطقة عموماً، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن تشمل هذه المسألة عناصر أخرى لا تظهر في الصورة في اللحظة الراهنة بسبب غبار المعركة مع اليسار المتشدد.
ما يعنينا من كل هذا هو الوضع الذي ستنزلق اليه قضية اليمن إذا ما استمرت هذه السياسة دون تصحيح يسمح بالنظر إليها كعنوان مستقل تقوم إيران بتوظيفها لصالح مشروعها المشتبك بأكثر من قضية معقدة على الصعيدين الاقليمي والدولي.
شخصياً لا اعتقد أن إدارة بايدن تجهل هذه الحقيقة، لكنها تقوم في الوقت الحاضر بتمارين على الورق لمعرفة ردود الفعل لدى اللاعبين الاساسيين سواء على الصعيد الدولي او الاقليمي. وتأتي رسائلها المتعددة في هذه اللحظة استجابة لحقيقة أن الحق الذي لا تدعمه القوة الذاتية يغتاله الإهمال.
واما بالنسبة اليمن فحتى الان نستطيع القول إن قوة الحكومة اليمنية يكمن في تمسكها بموقف منسجم مع رؤيتها لطبيعة المشكلة ومسارات حلها، وهذا الوضع يضعها في مواجهة سياسية من خلال التمسك بقواعد الاتفاق مع حلفائها على النحو الذي قام عليه التحالف في بدايته باعتبار أن الانقلاب الحوثي يوفر عناصر مباشرة للتدخل الايراني في الشأن اليمني، وينتج هذا التدخل بطبيعته ضررا بالغاً بمصالح الشعب اليمني في علاقته بدول الإقليم ومصالح شعوبها في الأمن والاستقرار. هذه الحقيقة لا بد أن تفهم في إطارها الصحيح الذي لا يجعل حل القضية اليمنية ملحقاً بحل بمشاكل إيران في المنطقة، وانما باعتبارها قضية لها ظروفها الخاصة المرتبطة بالانقلاب على ارادة الشعب اليمني من قبل جماعة عنصرية تدعي الحق الالهي في حكم اليمن وتدعمها إيران وتوظفها لصالح مشروعها.
إضافة إلى ما يوفره اتفاق الرياض من شروط لمواصلة مقاومة تحويل الانقلاب الى حالة أمر واقع تتسلل من خلالها دعوات للحل تتجاهل الجذر السياسي للمشكلة. وفي سياق متفق مع ذلك لا بد من كسر الانقلاب بقوة على الأرض، ولن يتأتى ذلك إلا بتجاوز الخلافات، وبناء منظومة سياسية وشعبية متمسكة بقيم المقاومة وبمشروع دولة المواطنة واحترام ارادة الناس في تقرير خياراتهم السياسية.
لا شك ان هذا الوضع سيؤسس لقواعد عمل سياسي ودبلوماسي أكثر تأثيراً في التعاطي مع جملة المتغيرات التي تحملها سياسة الادارة الأمريكية الجديدة تجاه قضية اليمن سواءً الإيجابية منها أم السلبية.
واعتقد أن العمل السياسي الرشيد في اللحظة الراهنة لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار مسألة مهمة وهي امتصاص هذا الاندفاع الامريكي بعمل سياسي مكثف حتى تمر الفترة التي تكون فيها الادارة الامريكية قد تمكنت من ترويض الانفعالات الداخلية لتبدأ الموجهات الحقيقية للسياسة الخارجية تتوازن مع المصالح الأمريكية، ودورها الذي لا يمكن للأيديولوجيا أن تقوم به على النحو الذي تم أثناء الحرب الباردة