تقدَّمَ بعضُ المحللين الأمريكيين خطواتٍ أبعد بكثير من تلك التي تخطوها وزارة الخارجية في بلدهم باتجاه الأزمة والحرب في اليمن، بالقول إن الحوثيين انتصروا في اليمن على المملكة العربية السعودية، وكأن الشعب اليمني صاحب القضية لم يعد موجوداً، ومن ثم فإن على إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن الاعتراف بهذا الواقع.. يا إلهي!!
هذا بالضبط ما جاء في مقالةٍ للباحثة في معهد كوينسي، أنيل شيلاين، نشرته مجلة "فورين بوليسي" التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، ليبدو الأمر وكأنه محاولة مخلصة للأخذ بالنقاش بشأن الأزمة والحرب في اليمن إلى مساحة واقعية، مع أن مقالاً كهذا في تقديري لا يعكس حكمة أو دراية بل وقاحة وانتهازية نخبوية.
لست أتجنى بهذا القول، فقد تبين من أمثلة عديدة شهدناها إبان ذروة المواجهة والصراع السياسي على خلفية الأزمة الناشبة عن حصار قطر، عام 2017، كيف أنه أمكن للمال وللأجندات إعادة توجيه القناعات النخوبية الأمريكية لفرض أمر واقع وكسر إرادة أمم في بلدان أخرى تقع في أعالي البحار.
فلو كان الأمر يحسب على أساس النتائج النهائية لاستخدام القوة المفرطة، من قبل العصابات المسلحة والجماعات المتطرفة ومن يدعمها، كما ترى شيلاين، فليس هناك أحق من ترامب بحكم الولايات المتحدة، خصوصاً أن الجماعات اليمنية واسعة النفوذ الموالية له استطاعت أن تسقط المؤسسة التشريعية العتيدة في واشنطن بغزوة واحدة فقط.
ولو اعتمدنا على قناعة شيلاين لما رأينا سكان إقليم كوسوفو يتحررون من براثن الأسد الصربي، ولما رأينا دولة قابلة للحياة لسكان البوسنة المسلمين.
ولعل المثال الأكثر وضوحاً بالنسبة لنا في المنطقة يتعلق بعقود من الصراع في فلسطين، التي يتعين وفقاً لما يرى بعض الباحثين الأمريكيين أن يكون للكيان الإسرائيلي الغلبة والنفوذ والسيطرة فيها من البحر إلى النهر، وطرد سكانها الفلسطينيين الضاربة عروقهم في أعماقها لآلاف السنين، بناء على سلسلة من الانتصارات العسكرية التي حققتها عصابات "الهاجانا" على الشعب الفلسطيني، تحت مظلمة الإمبراطورية البريطانية العظمى وتحقيقاً لوعد بلفور المشؤوم.
من المؤكد أن الشعب اليمني الذي ناضل من أجل نيل الحرية والكرامة وتحقيق دولة المواطنة والشراكة لم يفقد حلمه بعد، ولن يفقد إراداته للوصول إلى هذا الهدف.
فهذا الشعب لا يفتقد إلى الشجاعة وإلى إمكانية الانتصار على الجماعات التخريبية الإرهابية التي فرضتها دول إقليمية بدعم من القوى الكبرى، خصوصاً أن هذا الشعب هزم الحوثيين في مأرب وتعز وأحبط مخططهم للانتصار الحاسم، والذي أريد له أن يتزامن مع المفاوضات التي يجريها المبعوث الأمريكي إلى اليمن تيموثي ليندركينغ مع ممثلي الحوثي في مسقط، ومع الضغوط الأمريكية على الرياض لوقف الحرب بأية طريقة وبأي ثمن.
فهذه الدول جميعها تمسكت بسردية خاطئة وقاتلة رأت أن اليمن هو ثاني أكبر ملاذ في العالم لعناصر تنظيم القاعدة، وهي سردية ساهم في صياغتها نظام سعودي مجاور رغب في إعادة توظيف العناصر المصنفة إرهابية للإيهام بأنه قد نجح في تنظيف ساحته منها، وهو لم يفعل سوى أنه دفع بها إلى الساحة اليمنية المجاورة كمنتجات معادة التدوير ومتحكم بها بشكل كامل، بعد أن كانت قد أُنتجب أصلاً في مصانعه الفكرية والعقائدية ضمن موجة ممولة بسخاء من السعودية وأمريكا لمواجهة المد الشيوعي ودعم الجهاد المزعوم في أفغانستان، وساهم في تكريسها نظام دكتاتوري في صنعاء على رأسه علي عبد الله صالح؛ الذي سعى للحصول على فرصة مفتوحة للبقاء في السلطة بدعوى مكافحة الإرهاب، وقد كان له ذلك، لولا اندلاع ثورة الشعب اليمني في شباط/ فبراير 2011 (ربيع اليمن) التي أطاحت بجزء من نظامه للأسف ولم تستأصله من جذوره.
أيها السادة انظروا إلى الساحة اليمنية اليوم وتأملوا من الذي يمسك بمعظم السلاح، ويتمتع بالنفوذ، ستجدون أن الذين كانوا ذات يوم يعملون بكامل طاقتهم للإيحاء بأن تنظيم القاعدة يمسك بخناق الدولة اليمنية، هم اليوم يعيدون التموضع كقوات تقاتل من أجل فرض الدولة الزيدية الشيعية في الشمال مدعومة من الحرس الثوري، ودولة انفصالية بل وربما دول وكيانات في جنوب البلاد مدعومة من أبو ظبي التي لم يتردد سفيرها في طلب البركة من زعيم أكثر الأحزاب الدينية تطرفاً في الكيان الصهيوني.
وفي المحصلة ستجدون أنكم بإزاء مشاريع كلها لا تزال تخدم الأجندة السياسية للفاعلين الإقليميين والطموحات التوسعية المعبرة عن جنون العظمة لزعمائها الجدد، وتخدم كذلك القوى الكبرى التي ترغب في بيع المزيد من السلاح لمصدري النفط.
إن المطالبة بالتخلي عن القرار 2016 الصادر في نيسان/ أبريل 2015 بشأن اليمن، يمثل مؤشراً خطيراً على إمكانية أن تتحول الأمم المتحدة إلى مجرد مهندس ديكور يعيد تشكيل ساحات المواجهات الدولية وتصميم قرارات وفقاً لإرادة القوى الغالبة في هذه الساحات، لا وفقاً لمعايير استدامة السلام التي تنبني على التزام واضح بالحقوق الثابتة للشعوب، بما فيها حقها في العيش بسلام وديمقراطية وفق إراداتها لا وفق ما تمليه الجماعات الممسكة بالسلاح.
وأعتقد أن التراجع عن المبادرة السعودية، هو الذي سيجعل راوية أنيل شيلاين صحيحة. فإذا كانت السعودية قد أخطأت بمصادرة إرادة السلطة الشرعية التي تدعمها وأعلنت مبادرتها لوقف إطلاق النار، فإن الشيء الوحيد الذي يجعل موقف السعودية مقبولاً من معظم الشعب اليمني هو أن تطور من آليات الدعم المقدمة للحكومة وأن تكف عن مصادرة القرار السياسي للسلطة الشرعية، وأن تنهي خطر المجلس الانتقالي وتعيد تطويعه بما يتفق على الأقل مع اتفاق الرياض الكارثي.
وبدون ذلك فإنه يمكن لحفنة من المشتغلين بالاستشراف المريح من مكاتب جيدة التأثيث في مراكز الأبحاث الأمريكية، أن يستمروا في صياغة المستقبل الذي يرونه مناسباً لنا، والأكثر سوءا أن نقبل بحقيقة أن العصابة الحوثية الطائفية في صنعاء المدعومة من إيران، والعصابة الانفصالية المدعومة من الإمارات في عدن؛ وصفتان جيدتان لممارسة السلطة في بلد سقط فيه مئات الآلاف حتى لا يفقد الشعب اليمني حريته وكرامته.