جدلية العلمانية في المجتمعات الإسلامية شديدة الحساسية والتعقيد، مع تحوّل هذا المصطلح، خلال العقود الماضية، إلى مصطلح إشكالي، يثير من المشكلات أكثر مما يقدّم من حلول في هذه المجتمعات، بفعل النخبة المحتكرة لتمثيله، بل تحوّل المصطلح إلى أشبه بمهدّد هوياتي لهذه المجتمعات، كما تصور ذلك معظم التيارات الإسلامية، بمختلف توجهاتها واختلافاتها المذهبية والأيديولوجية.
تسويق النخب المثقفة في المجتمعات الإسلامية هذا المصطلح، من دون اعتبارات لسياقاته التاريخية والواقعية والسياسية والثقافية، يدفع باتجاه مزيد من التأزيم والتعقيد في الوصول إلى أي مقاربةٍ علميةٍ ومنطقيةٍ تجاه العلمانية، فهما وفكرة وتطبيقا، على الرغم من كل المبرّرات التي باتت تُطرح اليوم بأن فكرة العلمانية من أنجع الحلول للمأزق الطائفي في هذه المجتمعات المأزومة طائفيا، كلبنان والعراق واليمن وسورية. وعلى الرغم من ذلك، تتبادر أسئلة استشكالية أخرى في السياق نفسه: لماذا لم تستطع العلمانية، بنسختها البعثية مثلا، حلحلة هذه الإشكالية من قبل، في عهد النظام البعثي في العراق سابقا والحاكم في سورية حاليا؟ وهل كان نظام حزب البعث العراقي علمانيا؟ وما طبيعة النظامين في سورية ولبنان، وكذلك النظام السابق في اليمن؟
يمكن مقاربة هذه الأسئلة سريعا في سبيل مقاربة العنوان الأكبر لهذا المقال، وهو سؤال العلمانية في السياق الطائفي، وهي المقاربة التي تنبه لها باكرا محمد عابد الجابري في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، بقوله: عندما نقول لا حل لمشكلة الوطن العربي إلا بتبنّي العلمانية، عبارة صحيحة عند اللبناني. وأما المغربي أو الجزائري أو التونسي فسيرد الفعل بطريقة تفيد أن المشكل لا يعنيه كثيراً.
ليس «البعث» السوري علمانياً، يقف بالدولة على مسافة واحدة من جميع الطوائف، وإنما هو بعث طائفي يرتدي العلمانية رداءً لطائفيته
هذه الالتفاتة المبكرة من الجابري إلى المأزق الطائفي، وإمكانية تجاوز هذا المأزق علمانيا، يعاد اليوم الحديث عنه مجدّدا، في ضوء ما وصلت إليه الأزمة الطائفية، في هذه المجتمعات، من خراب وتدمير لكل شيء، وفي مقدمتها الاجتماع السياسي، مع الإشارة إلى ما ذكر أعلاه إن التجربة العلمانية نفسها كانت قيد التطبيق في هذه المجتمعات، ولكنها لم تجدِ نفعا كما هو حال حكم البعث في العراق مثلا. ويتشيع لهذه المقولة بعض المثقفين «الطائفيين»، باعتبار أنه حتى العلمانية نفسها فشلت في حل المأزق الطائفي، متغافلين عن قضية جوهرية في هذا السياق، فالنظام البعثي الحاكم في العراق، وكان يتبنّى الفكرة العلمانية، في ما يتعلق بموقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الطوائف، على الرغم من استبداديته العسكرية، نجح، إلى حد كبير، في تخفيف الإشكال الطائفي في العراق، وتعامل مع العراقي بوصفه مواطنا عراقيا، بعيدا عن هويته الطائفية، فكان المسيحي والشيعي والسني والأيزيدي والكردي كلهم مسؤولين وشركاء في الدولة العراقية القائمة، ولم تكن مشكلة النظام في العراق سوى في استبداديته العسكرية، وليس في علمانيته التي دفعت المجتمع العراقي، تعليميا وتنمويا، إلى صدارة كل الدول العربية، على الرغم من ظروف الحروب والحصار التي عاشها العراق، مقارنةً بحالة التخلف والفوضى الراهنة عراقيا بفعل الطائفية السياسية الحاكمة برداء الديمقراطية المهترئة والصورية.
وبالنسبة للحالة العلمانية المقابلة في «بعث» سورية فإنها هزلية، من خلال تلبس الأقلية العلوية أو «العلوية السياسية»، كما كان يصفها صادق العظم، وارتدائها عباءة حزب البعث العربي القومي العلماني، وممارسة كل ما يحلو لهذه الإقليمية من احتكار السلطة والمال. وهذا ما تجلى بوضوح تام، عقب أحداث ثورات الربيع العربي، حيث زجّت الأقلية الحاكمة أجهزة الدولة ومقدّراتها في حربها ضد الشعب السوري وقتله وتشريده، في أبشع مجزرةٍ في التاريخ العربي القديم والمعاصر. وبالتالي، لا نستطيع القول إن «البعث» السوري كان علمانيا، يقف بالدولة على مسافة واحدة من جميع الطوائف، وإنما بعثا طائفيا يرتدي العلمانية رداءً لطائفيته.
وفي حالة لبنان، ليس ثمّة علمانية لبنانية، في هذا البلد دولة محاصصة طائفية، لكل طائفة دولتها وقانونها الخاص بها، بمعنى أن لبنان دويلاتٌ طائفيةٌ داخل هيكل الدولة اللبنانية، فللمسيحيين دولتهم الخاصة، بمحاكمهم الخاصة ومدارسهم الخاصة ومؤسساتهم الخاصة، داخل الدولة اللبنانية. وبالمثل الشيعة والسنة والدروز، وهكذا يدار لبنان دولة محاصصة طائفية، عمّد اتفاق الطائف عام 1989 طائفيتها وشرعنتها. وما يظهر اليوم أن الغلبة فيها للطائفة الأقوى مليشياويا للدولة المغيّبة.
يرى الجابري أن الدولة في الإسلام لا أساس دينيا لها، وإنما أساسها مدني، هي دولة الناس وهم من يقرّرونها
أما يمنيا، فقد كان النظام السابق الذي حاولت ثورة 11 فبراير إسقاطه، وهو نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، هجينا، بين نظام عسكري قبلي، ادّعى تبنيه الديمقراطية مع بداية إعلان قيام الوحدة اليمنية، في مايو/ أيار 1990، تحت ضغط لحظة الوحدة وتوازن القوى العسكرية حينها، لكنه سريعا ما انقلب على تلك الديمقراطية بحربٍ، أفشلت فكرة الوحدة والديمقراطية والجمهورية معا، وحكم حكما قبليا عسكريا متخلفا، لا علاقة له بأي سياق سياسي ممكن الحديث عنه.
وبالعودة إلى المأزق الطائفي، تأتي تساؤلاتنا حول مقاربة الجابري اليوم، والتي قد نحتاج بعض التساؤلات فيما يتعلق بالطائفية، ولماذا قد تكون العلمانية حلا لهذا المأزق، مع رفض الجابري الشديد الفكرة العلمانية في السياق الإسلامي العام، باعتبار أنه لا وجود لثنائية الدين والدولة سوى في السياق الغربي المسيحي، وليس في السياق الإسلامي الذي يرى الجابري أن الدولة في الإسلام لا أساس دينيا لها، وإنما أساسها مدني، هي دولة الناس وهم من يقرّرونها.
إلى أي مدى يمكن اعتماد مثل هذه المقاربة والتسليم بها، حلا للمأزق الطائفي في العالم العربي، المأزق الذي قاد المنطقة العربية إلى دوامةٍ من الصراعات الدامية التي أجهضت كل محاولات الحداثة والتحديث السياسي والثقافي التي حاولت الدولة الوطنية إحداثها أزيد من نصف قرن مضى، وكيف تم تجاوز كل ذلك التراكم التحديثي الكبير، بكل تعقيداته وإشكالاته، والعودة بهذه المجتمعات مجدّدا إلى مجاهيل الخرافات الدينية والطائفية.
في المدرسة السنية لا تعتبر المسألة السياسية، أي الإمامة، أي رئاسة الدولة، من أصول الدين، وإنما تعتبر من فروعه
تداعيات الربيع العربي، وما خلفه هذا الإعصار المدني الشعبي الديمقراطي، بفعل تدخلات العالم الغربي الديمقراطي وتواطؤه ضد هذه الثورات، ومن ثم تواطؤه التام مع الأقليات الطائفية، بمبرّر مظلومياتها المصطنعة، واستخدام هذه الأقليات شمّاعة لتدخلهم في المنطقة، والسعي، أخيرا، إلى تمكينها سياسيا على حساب الأكثرية، كما تحدّث عن هذا السيناريو كثيرا الأميركي من أصول إيرانية، والي نصر، صاحب كتاب «صحوة الشيعة» الصادر في العام 2004، يضعنا اليوم أمام حقيقة أن بلدان المأزق الطائفي في حاجة حقيقية لفصل الدولة عن المذهب والطائفة، أي علمنة السياسة في هذه المجتمعات.
قد يتساءل بعضهم: لماذا نحن مطالبون بالإجراء العلماني في المجتمعات المأزومة طائفيا فقط، ولا يمكن الحديث عن العلمانية في غيرها من المجتمعات، وخصوصا المجتمعات ذات الغالبية السنّية الحاكمة مثلا؟ الإجابة عن هذا التساؤل سهلة، بالنظر إلى الخلفية التاريخية للمسألة السياسية في المدرستين، السنية والشيعية. في الأولى، لا تعتبر المسألة السياسية، أي الإمامة، أي رئاسة الدولة، من أصول الدين، وإنما تعتبر من فروعه، أي من القضايا الفقهية الخاضعة للنقاش البشري المدني البحت، وبالتالي تكون الإمامة، أي المسألة السياسية، مسألة بشرية، للناس أن يقرّروها حسب زمانهم ومكانهم، وفقا لأدوات عصرهم ومصالحهم المعتبرة، انطلاقا من القاعدة الأصولية «أينما تكن مصلحة الناس فثم شرع الله». على العكس من هذا تماما، ينظر إلى الإمامة، أي المسألة السياسية، في المذاهب الشيعية كلها على أنها من أصول الدين المعتبرة، ولا يقوم الدين إلا بها. وبالتالي، الدولة في الفكر الشيعي دينية لا مدنية، وهي أكثر تشابها، في نظرتها إلى السياسة، بهذه الطريقة، من النظرة التي كانت قائمة في أوروبا قبل ثورة الأنوار، التي بدأت بفرنسا رافعة شعار «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».
ومن هنا، يتأتّى مع الحديث عن حلول المأزق الطائفي الاقتراب أكثر من المقاربة العلمانية، لما تمثله المسألة السياسية من أصول المذهب الشيعي، سواء فكرة ولي الفقية في الاثنا عشرية أو الإمام العلم في الزيدية، على عكس المسألة في الحالة السنية التي لا وجود فيها لسلطتين متناقضيتن، دينية وسياسية، وإنما سلطة واحدة، هي السلطة المدنية، المسؤولة عن إدارة شؤون الناس. فقد ذهب الإمام محمد عبده (1849 – 1905) إلى القول إنه ليس ثمّة دولة دينية في الإسلام، ولا سلطة دينية لأحد، والحاكم هو الحاكم المدني تماما، وليس في الإسلام سلطة دينية لأحد، والحاكم في الإسلام ليس محصّنا أو معصوما، ومن حق الأمة أن تنتخب وتختار حاكمها. وكذلك، أي ليس لأي رجل دين، مهما بلغت مكانته، أي سلطة دينية، ولا يحق له، أو لأي أحد آخر، استئثار أو احتكار تفسير القرآن أو الدين أو التحدّث نيابة عن الله أو النبي.
تعتبر المدرسة الشيعية السياسة مسألة دينية عقائدية، ومن أصول الدين عندها، وهو ما يؤسّس لكل هذه الحروب والاقتتال الجاري في العراق واليمن وسورية ولبنان
وانطلاقا من هذه المقاربة الصريحة لمحمد عبده، والتي كانت وتأسست عليها رؤية المدرسة السنية كلها قديما وحديثا للمسألة السياسية، وكانت مدرسة الغزالي تمضي عليها، ومن خلال مقاربته لذلك في كتاب «إحياء علوم الدين»، والتي كانت تؤسّس لهذا التوجه في عدم وجود أي سلطة دينية في الإسلام، وإنما ثمّة سلطة مدنية، هي التي يحق لها إدارة شؤون الناس والعمل على مصالحهم. وهذه المقاربة هي التي تدفعنا اليوم إلى الحديث عن الإشكال الكبير فيما يتعلق بالمدرسة الشيعية التي تعتبر السياسة مسألة دينية عقائدية، ومن أصول الدين عندها، وهو ما يؤسّس لكل هذه الحروب والاقتتال الجاري في العراق واليمن وسورية ولبنان، ويتم تجييش الناس لحروبٍ طائفية لا تنتهي. ولا يخفى هنا أنه ظهرت اجتهاداتٌ شيعيةٌ حاولت الاقتراب من هذا التصور الموجود في المدرسة السنية، كما ذهب إلى ذلك محمد مهدي شمس الدين (1936 – 2001)، الذي عارض فكرة ولاية الفقيه، وتحدّث عنها بديلا عن ولاية الأمة، وهي ولاية الناس في اختيار حكامها، بعيدا عن أي وصاية دينية أو مرجعية من أحد.
لقد باتت جلية اليوم أهمية إعادة النظر في قضايا كثيرة، والبحث عن حلول حقيقية وشجاعة، وخصوصا في مقاربة المأزق الطائفي، من خلال المقاربة العلمانية، في سبيل البحث عن حلول لهذا المأزق المدمر لمجتمعاتنا، بالبحث عن جذور هذا المأزق وجوهره، وكيفية تجاوزه فيما يتعلق بمدنية الدولة ولا دينيتها، وهو مشكل لا يمكن تجاوزه إلا من خلال مقاربة جذرية تضع النقاط على الحروف، في ما يتعلق بشكل الدولة ومرجعيتها في السياق الطائفي، وغير ذلك ستبقى هذه المشكلة قائمة مستنزفة كل الجهود والطاقات في صراعاتٍ طائفيةٍ عقيمةٍ لا يمكن الخروج منها، ولا تنتهي إلا لتبدأ.