قبل عقدين من الزمن شنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب على أفغانستان للإطاحة بنظام طالبان ووفقا لوزارة الدفاع الأمريكية وبحسب تقرير نشرته البي بي سي ـ سأرفقه في أول تعليق ـ فإن إجمالي الإنفاق العسكري والمدني في أفغانستان (من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2001 وحتى سبتمبر/أيلول من عام 2019) قد بلغ 822 مليار دولار هذا إضافة إلى الخسائر البشرية .
وقد شكلت أفغانستان على مدى العشرين عاما بؤرة استنزاف كبيرة للقدرات الأمريكية والغربية عموما لتقرر واشنطن والعواصم الغربية المشاركة في الحرب على طالبان الرحيل وترك البلد لطالبان .
لم تجن واشنطن سوى الخسائر لكن السؤال هنا بعد هذا التقدم السريع لطالبان وانهيار قوات الحكومة الأفغانية هو: ما هو الهدف الحقيقي من تلك الحرب؟
لم تكن تلك الحرب لأجل استضافة طالبان للشيخ أسامة بن لادن أو لإلقاء القبض عليه وإن شكل هذا جزء من شماعة الحرب، ولم تكن أيضا لأجل أن طالبان من المتشددين فواشنطن لا يهمها وجود الاعتدال والوسطية الإسلامية في العالم العربي والإسلامي ولكنها كانت تخشى من نجاح التجربة الإسلامية، كانت تدرك أن ترشيد تلك التجربة وتهذيبها وتطويرها ونجاحها سيقدم للعالم الإسلامي نموذج جديد يحتذى به .
شنت واشنطن وبالتعاون مع استخبارات عربية وغربية وشرقية حملة إعلامية شعواء ضد طالبان، كتب، أفلام، تقارير، برامج وكل هذا لشيطنة طالبان وتقديمهم كوحوش بشرية يغلقون مدارس البنات ويحاربون تعليم الفتيات ويزرعون المخدرات ويرجمون المرأة ووو ألخ .
ورغم كل هذه الحملات المنظمة فقد صمدت طالبان ولم تضعف أمام العالم باسم فقه الواقع أو بأي مبررات وتمسكت بجهادها وشنت من كهوف الجبال حرب عصابات ضد القوات الأمريكية حتى خرجت من أفغانستان .
تجربة طالبان تؤكد أنك إذا كنت تمتلك عقيدة إيمانية قوية وحاضنة شعبية متعاونة فإنك تستطيع محاربة العالم كله فطالبان كانت تحارب في بلادها التي تعرفها جيدا وتعرف كهوفها وجبالها ولذا كانت هذه المعرفة والحاضنة الشعبية من أبرز أسباب انتصارها .
لقد ظل نموذج طالبان سيف مصلت على رقاب الإسلاميين في كل مكان ولذا كان الكثير منهم ينتقد التجربة ليقول للعالم: هم متشددون لكننا معتدلون ولو أننا أعدنا قراءة ما حدث لحركة النهضة في تونس مؤخرا من انقلاب يهدف لإقصائها لوجدنا أن التيار الإسلامي مهما قدم من تنازلات ومهما تقارب مع التيارات العلمانية واليسارية والليبرالية ومهما غازل القوى الكبرى يظل غير مرغوب فيه ما دام فيه رائحة الإسلام .
تجربة طالبان تقدم الكثير من الدروس للإسلاميين أهمها: ان إعطاء أهمية كبيرة للقوى الكبرى في سياساتها ومراعاة توجهات الدول الكبرى ومداراتها ومسايرتها ومغازلتها باسم الديمقراطية وغيرها قد أثمر الكثير من جوانب الفشل والتعثر للإسلاميين .
لقد كان هدف الحملة الإعلامية المصاحبة للحملة العسكرية على طالبان إقناع العالم أن تجربة طالبان تجربة فاشلة ووحشية وعلى العالم كله محاربة تكرارها في العالم العربي والإسلامي بينما هي في الحقيقة تجربة لها وعليها ، تجربة تستحق قراءة مهنية وموضوعية ولعل الأستاذ فهمي هويدي في كتابه " جند الله في المعركة الغلط " قد أقترب من تقديم رؤية موضوعية لتجربة طالبان في مراحلها الأولى لكن مياه كثيرة قد جرت في النهر منذ بداية الألفية الجديدة حتى الآن مما يحتم على الباحثين تقديم رؤية جديدة لطالبان بعد عقدين من الزمن حيث وجدت تساؤلات كثيرة منها :
ما هو مستقبل طالبان وهل ستقبل بشراكة مع الحكومة الحالية وتشكل حكومة مع غيرها من القوى الأفغانية وستقبل وعلى أي أساس ستكون هذه الشراكة؟
ما هي حقيقة ومستقبل علاقتها مع إيران والهند والصين وروسيا وقطر وقبل ذلك باكستان؟
وهل تغير خطاب طالبان منذ عام 2000 إلى اليوم ؟
هل جلوسها للحوار مع الأمريكان مؤشرا على تطور خطابها ؟
هل ترشدت وتجددت رؤية الحركة لكثير من القضايا مثل : تطبيق الشريعة ، تعليم المرأة ، الفنون والآداب والإعلام وغيرها ؟
برأيي تجربة طالبان خلال حكمها لم تنضج ولم تتوفر لها الظروف المواتية لكي تنضج ونستطيع الحكم عليها ، شباب متحمسون ثاروا على واقع مختل ووجدوا الدعم من باكستان وجهات محلية وقبول من المجتمع الذي كان يعاني من الظلم والنهب والعصابات فأوجدوا الأمن والاستقرار وتساقطت بأيديهم المناطق منطقة تلو أخرى وتوسعوا حتى صاروا يحكمون أغلب البلاد ، وحينها ثارت ثائرة الغرب وهب لمحاربتهم بينما صمت العالم العربي والإسلامي الذي من المفترض أن يمد يده لمساعدة هذا البلد الإسلامي الفقير وأن يعمل لترشيد تجربة طالبان وتطويرها وإيجاد قنوات فاعلة الحوار معهم .
لكن للأسف أمدتهم بعض الجهات العلمية في السعودية بأدبيات وفتاوى تكرس نهج طالبان ولا ترشد التجربة ويحكي الأستاذ فهمي هويدي الذي رافق الوفد الإسلامي إلى أفغانستان لثني طالبان عن تدمير تماثيل بوذا أنهم كانوا يجتمعون مع قيادات طالبان في غرفة وفي الغرفة المجاورة تصل لطالبان فتاوى عبر الفاكس مرسلة من مشايخ في السعودية تدعم وجهات ورؤى طالبان .
لم يذهب العلماء أمثال الشيخ يوسف القروضاوي وشيخ الأزهر حينها نصر فريد واصل إلى طالبان للنقاش معهم وترشيد تجربتهم فهم طلاب متحمسون لديهم غيرة حماسة وليس لديهم نضج فقهي كبير أو رؤية اسلامية استراتيجية لإدارة الدولة لكنهم ذهبوا لثنيهم عن هدم التماثيل حيث ذهبت تلك الوفود من العلماء لثني حركة طالبان عن قرارها بتدمير التمثالين .
لقد قالوا لطالبان بلسان الحال والواقع أن التماثيل أهم منكم فنحن لم نذكركم إلا عندما قررتم هدم تلك التماثيل .!
تركوهم لوحدهم لسنوات طوال وجاؤوا إليهم حتى لا يهدموا التماثيل .!
اليوم على العالم والإسلامي أن يمد جسور التواصل مع طالبان ويسعى عبر العلماء والفقهاء والمؤسسات الإسلامية لترشيد تجربتها والجلوس مع قيادة طالبان والنقاش معهم والعمل على إرساء مستقبل جديد لأفغانستان ، مستقبل فيه السلام والاستقرار والتعايش بين كافة أفراد المجتمع الأفغاني المسلم الذي مل من الحروب والنزوح والتشرد والفقر ويريد الرفاهية والسلام والاستقرار .