كان بارامينيدس يرى أن الثبات هو سمة الوجود، وأن «الرجل يبقى على ما هو عليه» غير أن هرقليطس رأى أن التحول هو القاعدة، وأن «الرجل لا يَعبُر النهر نفسه مرتين» على اعتبار أن الرجل عندما يعبر النهر في المرة الثانية يكون الماء قد تغير مع جريان النهر، وكذلك الرجل، فلا النهر هو النهر ولا الرجل يبقى على ما كان عليه. ولا تزال تلك الجدلية تتجاوب أصداؤها، ولكن بشكل آخر ولغة مغايرة ومقاربات مختلفة. فمن ناحية: الجدل الذي ثار بين بارامينيدس وهرقليطس هو الذي يثور اليوم حول الماضي والحاضر والأصالة والمعاصرة والثابت والمتحول، وبطريقة تشير إلى الثبات، ومن ناحية أخرى فإن نوعية ولغة وأساليب هذا الجدل قد تطورت بشكل يوحي بالتحول والمغايرة. ومع أن تاريخ الفلسفة ـ فيما يبدو ـ قد انتصر لفكرة هرقليطس حول التحول وعدم الثبات إلا أن التحول يأتي أحياناً على شكل تكرار يكاد يكون حرفياً مع بعض الفروق التي يقتضيها جريان الأنهار والأزمنة وخصوصيات الأماكن والضفاف، وبشكل يوحي بأن هناك نموذجاً ثابتاً ـ أو أقرب إلى الثبات ـ تخرج منه الموديلات والأشكال والصور والأفكار والأحداث المتغيرة. وأن هناك مادة أولية بدائية واحدة صنع منها كل هذا البهاء المعقد الفخم، فأصل الألوان لون واحد، ولكن بدرجات مختلفة، رسم منها ما لا يحصى من لوحات وتحف وأطياف، والمادة التي نُحت منها تمثال الإمبراطور هي المادة عينها التي نحتت منها أشكال الحيوانات المجسمة عند قدمي التمثال العظيم. والبشر ـ والحيوانات جميعها ـ خرجوا من المادة الجينية نفسها، ولكن مع اختلافات في الصيغ الحمضية التي خرج منها الإنسان والصرصور والفراشة والضواري والقرود وهتلر وضحاياه، وما محاولات التمايز بين الناس إلا مزحة ثقيلة صدرت عن دماغ إنسان مصنوع من المادة ذاتها التي صنعت منها أدمغة فئران المعامل والمختبرات. الثقافات ـ لا العوامل الجينية ـ هي التي صنعت كل تلك الفروق الشكلية التي لا تقوم على حقائق علمية ولا مبادئ أخلاقية، والثقافات هي التي تجعل مجتمعاً يتناغم مع مكوناته المختلفة، ومجتمعاً آخر يتحلل إلى تلك المكونات التي تتحول مع الزمن إلى عوامل تدمير، مع أنها جميعاً صنعت من الجين نفسه، والصبغة ذاتها، مع تفاوت شكلي في درجات اللون وتركيبة العناصر، بهدف انسجام اللوحة لا تنافر عناصرها. ونمضي في جدليات «الثبات والتحول» لنقول إن أزمنة كثيرة قد تعاقبت، وإن مياهاً جرت تحت جسر الحياة، لكن نسبة تكرار الموديلات والنماذج عالية، إذ أن الحقب المتباعدة التي تفصل بين نيرون وهتلر ـ مثلاً ـ لم تمنع عودة الأول في صورة الثاني، بما يؤكد أن الماضي يعود في أحداث وأساليب ووسائل جديدة، وأن الحروب القديمة هي الحروب الحديثة، غير أن السيوف اليوم أصبحت طائرات مسيرة وصواريخ ذكية، والمنجنيق الذي كان يقذف بالكرات النارية أصبح اليوم قاذفات استراتيجية ترمي بالقنابل النووية والهيدروجينية، ونيرون غيَّر مظهره، وأعادته الأقدار في صورة هتلر الذي لم يكتف بحرق روما وحدها، ولكن حريقه امتد إلى العالم كله، حيث قُتل عشرات الملايين من البشر، واحترقت دول وامبراطوريات في نيران روما التي أشعلها النيرونيون الجدد من النازيين والفاشيين في أوروبا. وفي منطقتنا العربية التي شهدت تحولات كبرى على مدار القرون ظلت الأحداث تتكرر والأفكار تتجاوب، فقريش ما تزال ترى أحقيتها بحكم الخيمة المحترقة لعبس وذبيان وبكر وتغلب، وهو ما سبَّب استنساخ الحروب والثورات السابقة في صفين والجمل وداحس والغبراء والبسوس، ناهيك عن استعادة صراعات العلويين والأمويين السياسية التي تم إلباسها ثوباً دينياً أسهم في انسكاب المزيد من الدماء التي تجري تحت الجسور الكثيرة في العراق والشام واليمن اليوم. وحتى شعراء المديح والهجاء القدامى أطلوا علينا على هيئة محللين بربطات عنق من شاشات عملاقة ينفخون في نيران داحس والغبراء، حيث انتقل سوق عكاظ إلى قنوات تلفزيونية يحيي فيها الشعراء كل ليلة حفلات التهريج والتهييج المستمرة التي تسجل مآثر هذا الطرف ومثالب ذاك. هل تغير العالم ـ إذن ـ أم لم يتغير؟ إن كان العالم يتغير، فلماذا تعود معظم التجارب الماضية بشكل شبه كربوني، وإذا كان لم يتغير فما هذا الذي نراه من تحولات كبرى على الصُعُد المادية والفكرية؟ الواقع أن التحولات الكبرى التي شهدها العالم تعد تغيراً، ولكنه أشبه بتغير سطح البحيرة عندما نرجم فيها حجراً، فالقشرة الخارجية للماء هي التي تتغير، كما يغير الممثلون مظهرهم الخارجي فقط، ليتواءم مع أدوارهم الجديدة، ونحن ـ المشاهدين ـ نظن أننا أمام شخصيات جديدة، وهي في الواقع الشخصيات القديمة، مع بعض التغيير في الأكسسوارات والمكياج وطريقة الأداء، فيما قصة الفيلم لم تتغير كثيراً، والسيناريو والحبكة والموسيقى هي نفسها مع بعض التغيير في ترتيب فصول القصة، وفي مواقع النوتات والألوان، ذلك أن المخرج وراء كل ما نرى ونسمع هو مخرج واحد، أراد أن يعتصر كل ما في أرواحنا من غرائز وأحاسيس ودموع وضحكات، لتستمر صناعة هذه السينما الكونية العملاقة التي تقدم لنا العالم وفق ما يريد المخرج، لا ما نريد نحن. أنا لا أعتقد أن الأرواح تتناسخ وأن روحي بعد موتي سوف تظهر في جسم جديد، لكن لدي يقيناً بأن الأفكار والقيم والفلسفات والثقافات والأحداث تستمر في التناسخ مع بعض التحورات، تماماً كما أعاد الفارابي إنتاج أرسطو، وكما نعيد نحن إنتاج قصائد عمرو بن كلثوم وهوميروس، ونتوهم أننا دخلنا عصور الحداثة وما بعد الحداثة، غير مدركين أننا نجدد في جسد اللغة لا غير، لأننا مولعون بالأجساد والأشكال والصور، فيما لا تزال معاني امرئ القيس تتجاوب وبموديلات مختلفة تصدر عن النموذج الأول الذي رسمته خطوات ناقتنا القديمة التي كانت تمشي على رمال الصحراء، فيما يردد الشاعر القديم وهو راكب ظهرها: ما أرانا نقول إلا مُعاراً أو مُعاداً من لفظنا مكرورا نعم نحن نتغير، ولكن بتكرار ثابت، وفي كل لحظة تولد حياة جديدة، ولكن من رحم واحد، ومن الحمض النووي ذاته، وكلَّ يوم تخرج لنا أفلام جديدة، ولكن بالسيناريو ذاته وللمخرج نفسه، وتُرسم لوحات متعددة، ولكن اللون واحد والرسام هو الرسام، وتُكتب قصائد مغايرة، ولكنها ترجيع لحُدائنا القديم حول «ناقة البسوس» ويطلع علينا بين الفينة والفينة جبابرة وطغاة جدد، ولكنهم جميعاً تخرجوا في مدرسة نيرون، وإن غيروا أشكالهم، وكما يتكرر القتلة المجرمون يتكرر كذلك الفلاسفة والمصلحون والفنانون، والروايات والفصول. إنها الحياة التي تستوعب برامينيدس الذي يرى أن الرجل لا يتغير، وكأن الحياة دائرية المسار تبدأ حين تنتهي، وتموت لتعود من جديد، ويجري حول محيطها الناس والأحداث والأفكار بشكل متكرر يوحي بالثبات، وهي الحياة التي تستوعب كذلك هرقليطس الذي يرى أن «الرجل لا يعبر النهر نفسه مرتين» وكأن الحياة خط مستقيم يجري مع الماء المتدفق، وتختلف بداياته عن النهايات. إنها الحياة، المطلق فيها يعانق النسبي، والانفصام هو عين الانسجام، والتحول هو الثبات، والتعدد هو الوَحدة، والخط المستقيم هو محيط الدائرة!
د.محمد جميح
خط مستقيم أم محيط دائرة؟ 974