لم يعترف الوالي العثماني في صنعاء بما فعله الإنجليز في جنوب اليمن (النواحي التسع) فحرك قواته تجاه تلك المناطق وتمكن من السيطرة على كثير منها. إلا أن لندن تواصلت مباشرة مع (القسطنطينية) اسطنبول. فاتت الأوامر من هناك إلى الوالي العثماني بالانسحاب مع احتفاظها بالضالع فكان ذلك رغم عدم اعترافها بالنواحي التسع. بريطانيا ارسلت قوات إلى الضالع .
تركيا كانت تعاني من الضعف بسبب الصراع الداخلي لذلك اقترحت على لندن بتشكيل لجنة مشتركة لتخطيط الحدود بين الدولتين في اليمن (بريطانيا التي تسيطر على جنوب اليمن وتركيا التي تسيطر على شماله) وكان ذلك عام 1905م بعد أن عمل الإنجليز على ارسال قوة إلى الضالع. ومن ضمن التوسع دعمت بريطانيا مد سكة حديدية من عدن إلى قرب الضالع. وبينما كانوا يستعدون لذلك حصلت أمور في لندن قلبت السياسة البريطانية التوسعية في عدن رأسا على عقب. فقد فاز حزب الأحرار البريطاني في الانتخابات فوزا ساحقا وخرج المحافظون من الحكومة فتغيرت السياسة إلى الانكماش نحو عدن. ظل الوضع في تجاذب إلى أن أطلت الحرب العالمية الأولى عام 1914م فوقفت تركيا إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا ومن معها.. فتحركت جبهات عديدة في العالم ومن ضمنها جبهة اليمن.. حيث زحف القائد العثماني الشهير (علي سعيد باشا) بقواته من صنعاء وجيش في طريقه في اتجاه (لحج) وكان قد طلب من العبدلي سلطان لحج الانضمام إلى الجيش الذي سيهاجم عدن وفتح بلاده لذلك وفق الشروط التي يريدها السلطان. لكن السلطان رفض فزحف القائد العثماني ومن معه في اتجاه لحج وسيطر على عاصمتها (الحوطة) ثم واصل سيره إلى (الشيخ عثمان) فدخلها وهنا أحس الإنجليز بالخطر فدفعوا بقوات اخرجت علي سعيد باشا من (الشيخ عثمان) واتخذها الإنجليز خط الدفاع الأول عن عدن.. ودارت هناك معارك عنيفة أظهر فيها علي سعيد باشا قدرة فائقة على القيادة وبينما هم قريبين من الشيخ عثمان اذ بالأنباء تصلهم باستسلام تركيا وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى ويطلبون منه التسليم للإنجليز.. فبعث القائد العثماني برسائل عديدة إلى الإمام يحي الذي كان خارج صنعاء يطلب منه إرسال من يستلم الأرض والأسلحة بدلا من تسليمها إلى الإنجليز. إلا أن الإمام يحي لم يستجب لذلك كما قال. مصطفى سالم في كتابه (الوجود العثماني الثاني في اليمن) تواصل علي سعيد باشا كذلك مع والي اليمن في صنعاء (محمود نديم) وهو آخر والي عثماني في اليمن من أجل إقناع الإمام بذلك فلم يستجيب الوالي العثماني له بل وقف ضده واتهمه بالكذب وان تركيا لم تستسلم كما ذكر الاكوع في كتابه (عالم وأمير). فاضطر القائد العثماني إلى توزيع الكثير من الأسلحة بين القبائل اليمنية التي كانت تناصره وسلم الأرض للإنجليز الذين بدورهم أعادوها للسلاطين. كما سلم نفسه وجنوده إلى الحاكم البريطاني في عدن مقابل نقلهم على سفن بريطانية إلى تركيا كما كان الاتفاق في شروط التسليم الذي وقعته تركيا مع الحلفاء ... بعد أن دخل الإمام يحي إلى صنعاء واستقر بها وطعم لذة الحكم تذكر المخاليف الجنوبية التي رفض استلامها من قبل فقام بإرسال جيشا بقيادة الأمير محمد عباس لإخضاع بلاد الضالع وملحقاتها كجبل حرير وجحاف وردفان وحالمين والاجعود والشعيب فدخلها الجيش الإمامي بدون مقاومة تذكر من أهلها لأنهم فضلوا حكم ابن البلد العربي المسلم على أن يدخلوا في ذل الاستعمار. ولكن الأمير يحي بن عباس لم يحسن سياسته هناك وعاملهم معاملة قاسية وأخذ منهم الرهائن وأرسل لهم المخامنة لتقدير الزكاة وأرسل عدادين للبشر من أجل الفطرة. وعداد للأغنام والأبل .. (المصدر السابق للاكوع) راجع مشايخ الضالع الإمام يحيى أكثر من مرة من أجل التخفيف وشكوا له الأمير يحي بن عباس ولكن دون فائدة. فقاموا بالارتماء إلى أحضان الانجليز عن طريق (العبدلي) سلطان لحج وهرب الكثير من مشايخ الضالع من سجون الإمام هناك إلى لحج وعدن. فاستغل الإنجليز هذه الفرصة لإحياء قضية (النواحي التسع) التي كانت معلقة من ايام الاتراك . بدأت المفاوضات بين الإمام يحيى وحكومة بريطانيا عن طريق المراسلات . بريطانيا كانت تعرف أن حكومة الإمام يحيى تعاني من ضعف بسبب نشوب خلاف الإمام مع الملك عبد العزيز وكان شبح الحرب يظهر بوضوح بالإضافة إلى ثورة الزرانيق على الإمام يحيى في تهامة. فعملت بريطانيا على استغلال كل ذلك من أجل الضغط عليه بالتنازل عن الضالع ولكنه رفض كل الضغوطات. فاشتدت الأزمة واخرج الانجليز الطائرات فوق بعض المدن الشمالية وانزلت عليها المنشورات بالتهديد والوعيد. فعقد الإمام يحيى اجتماع مع مستشارية فخرجوا دون نتيجة بسبب تعدد الآراء. فقامت بريطانيا بقصف تعز وإب ويريم وماوية وتربة ذبحان فكانت الخسائر المادية أكثر من البشرية. ولكن الناس اصيبوا بالهلع والخوف لعدم معرفتهم بالطيران والقصف من قبل.. الإمام يحيى شن حملة إعلامية قوية عبر جريدة (الإيمان) ضد بريطانيا واعمالها الإجرامية في اليمن وأبرق محتجا إلى (عصبة الأمم) وإلى الدول العربية والإسلامية التي كانت ترزح تحت الاستعمار كانت ضجة عظيمة ولكن دون فائدة. في الضالع كانت الطائرات البريطانية تتردد باستمرار وتقصف قوات الإمام هناك بقسوة مما اضطر تلك القوات إلى الانسحاب من الضالع وكان أول الفارين في الليل هو عامل الضالع (محمد الشامي) وهو والد الأستاذ أحمد محمد الشامي صاحب كتاب (رياح التغيير في اليمن) والذي ولد في مدينة الضالع عندما كان أبوه عاملا عليها وكان الخروج من الضالع عام 1928م.. غدا إن شاء الله سنتابع بقية الأحداث عن طريق (الحلقة الخامسة).