كان الرجل السبعيني الذي يحمل على كتفيه بندق جرمل قديم ويرتدي حزاما فيه ما يقارب ألف رصاصة وفي الجعب عدد غير معروف من القنابل كأنه مناضل فسلطيني قرر استعادة القدس بمفرده وحين نظرت إليه مذهولا سألني :
ـ لياه تشاحر صليا؟!
لم أفهم حرفا واحدا مما قال فعاد يسألني :
ـ لياه تشاحر صليا؟!
وحينها جذبني ابن عمي وترجم لي :
ـ يقصد ليش تنظر إليه ؟ !
وحينها أدركت أنني قد انتقلت من قريتي في العدين إلى عالم آخر وأنني سأحتاج لكي أتفاهم مع الناس إلى مترجم .!
كان ذلك في رداع عام 1998م حيث عشت تجربة لا أنساها ما حييت، فقد عملت في مطعم لمدة شهرين تقريبا في أول غربة لي عن أرض إب الباسلة .!
كانت تجربة استثنائية وثرية وكان العمل شاقا ومرهقا منذ الصباح الباكر حتى العاشرة ليلا باستثناء ساعتين راحة من الساعة الثالثة عصرا حتى الخامسة مساء .
بعد ثلاثة أيام من العمل أحسست كأنني قد قتلت أفرد قبيلة كاملة فحكموا علي بالإعدام لكنهم خففوا الحكم إلى الأشغال الشاقة في هذ المطعم الذي يوصف بأنه " سياحي " .!!
لقد انتقلت من فتى مدلل في القرية إلى عامل مرهق في مدينة لا يعرف فيها سوى ثلاثة أشخاص، في الأيام الأولى أصبت بتسلخات في مفاصلي وشد عضلي من كثرة الحركة خصوصا من الحادية عشر إلى الثانية عشر بعد الظهر ذروة الزحام، كنت وعامل آخر نباشر الزبائن في مطعم كبير، نجري حتى تتقطع أنفاسنا ونحن نلاحق طلبات عشرات الزبائن الذين يتوفدون على المطعم وكأنه الوحيد في ردع .!
كثيرا ما كنا نتعرض للشتائم المقذعة إن تأخرنا في إيصال الطلبات، وكثيرا ما كنت ارتبك وأخلط بين الزبائن وأوصل لزبون طلبات زبون آخر وأتلقى وابلا من الشتائم .!
ومرارا تعرضنا للاعتداء من بعض الزبائن الذين كانوا يرشقوننا بقناني الماء أو يدلقون علينا المرق الحار أما التوبيخ والسب فحدث ولا حرج .!
كنت كأنني في رهان مع نفسي: إلى متى سأتحمل وأصبر؟!!
تنتهي الفترة الأولى من العمل قرابة الثالثة عصرا بعدها نغلق الأبواب ونتناول طعامنا على عجل كأننا لصوص ثم نقوم بغسل المطعم بكل ما فيه حتى يكاد يلمع .
بعدها أتوجه إلى الجامع أجرجر أقدامي وكأنني نملة داسها جنود سليمان أجمعين .! أصلي الظهر والعصر دفعة واحدة ثم أشتري لي ربطة قات بخمسين ريال من البقشيش الذي أحصل عليه من بعض الزبائن، أتوجه بعد ذلك إلى السكن الذي استأجرته مع ثلاثة من أقاربي، كل منا له مفتاح ولا نلتقي إلا بالليل، وفي الطريق أمر على المكتبة أشتري مجلة أو صحيفة أقرأها خلال فترة راحتي التي كنت أشعر انني قضيهم في الجنة .!
صدقوني لقد جلست في أفخم المجالس وأفخر الأماكن وجالست أشخاص من العمال إلى الوزراء وعلية القوم فلم أجد ألذ من جلوسي في تلك الساعتين التي كنت أرتاح فيهم بعد تعب مضني وعمل شاق جدا، ومن يومها علمت أن المرء لا يستريح إلا بعد تعب، ولا يشعر بالسعادة إلا بعد أن يبذل جهودا ويقدم إنجازا في أي مجال أو يعمل بجد ويرى ثمرة جهده في الواقع .
كان راتبي يومها 500 ريال أستلمها كل يوم بيومه، بعد انقضاء الشهرين واقتراب الدراسة تركت العمل ووجدت انني قد جمعت ما يقارب 33 الف ريال وكان يومها مبلغ جيد يكفيني مصاريف كطالب طوال العام، كنت يومها في سأدخل في الصف الثالث ثانوي .
بعد أن تركت العمل قلت لنفسي: الآن سأنام بارتياح وعمق، لكن جسمي كان قد تبرمج على العمل، صحوت كعادتي، وبعد الصلاة حاولت أنام ولكن دون جدوى، وجدتني أذهب إلى المطعم بشكل لا إرادي، لكني ذهبت كزبون وجلست على الطاولة ووضعت رجلاً على أخرى وصرخت فيهم :
ـ أين المباشر ؟! ما هذا المطعم السيء ؟ !
نظروا إلي وضحكوا :
ـ ذلحين أنت منك جد ؟ !
تناولت فطوري وتجولت في المدينة برفقة ابن عمي حيث ذهبنا إلى مدرسة العامرية الشهيرة ورأيت هلال الإسلام وصليب النصارى ونجمة داوود اليهودية على جدران مدرسة العامرية ولم أستوعب إلى اليوم لماذا تم رسم رموز الأديان في هذه المدرسة الأثرية؟!
وضعت فلوسي عند أقاربي في رداع وغادرت إلى مدينة السوادية وهي مدينة صغيرة على خط رداع مأرب ، وفيها ألتقيت بعض أصدقائي من أصحاب البلاد وهم أصحاب محلات خياطة وبقالة ومطاعم وبقيت هناك لمدة أسبوع ، ووافق أن وجدت شاب اسمه " مصطفى " من قرية مجاورة يعمل معهم وهو مثقف جدا ويعمل كخياط مبدع وأندمج معي وتحدثنا عن قضايا وأشخاص وأعجب بي وبثقافتي وتعلق بي وكنت أجهز كلمات متقطعات ونراهنهم أنا ومصطفى على حلها فيعجزون فنقوم بحلها ، وبعد أسبوع غادرت السوادية ولم أعد إليها منذ ذلك اليوم ولم أرى مصطفى ولا أصدقائي أصحاب البلاد ، لأني عدت للقرية وأكملت الدراسة وبعدها غادرت إلى صنعاء وأستقر بي المقام إلى عام منتصف أبريل 2018م حيث غادرتها إلى مصر ثم عدت بعد أكثر من عامين إلى حضرموت .
لم أحب مدينة بعد صنعاء مثل رداع رغم أن حوادث الثأر والقتل هناك تكاد تكون كل يوم .!
أسوأ ما في رداع أن الناس يمزحون بالسلاح وقد يطلق صديقك الرصاص عليك من باب المزاح وهو يضحك وبعد ذلك يقوم بإسعافك للمستشفى ويظل يضحك وكأن شيئا لم يكن .!!
وأذكر أن شاب من بيت الطشي أعرفه ذهب للعمرة وبعد عودته من العمرة ما إن رآه صديقه حتى أراد أن يفاجئه ففتح الأمان بالبندق الكلاشينكوف وأطلق الرصاص عليه فأصيب في ساقه ثم أسعفه للمستشفى وظل يضحك ولا كأنه قد شرع بقتل صديقه بدم بارد .!
أما حين تنشب الحرب " العبثية " بين قبائل عبس وذبيان أقصد عباس وريام فإن رداع تمر بأسوأ أيامها ، أتذكر أنني في المطعم حين فر إلينا مجموعة من السياح الأجانب بعد سماعهم لإطلاق رصاص في الشارع المجاور وحينها خافوا من الاختطاف وقمت بإدخالهم للمخزن الخلفي للمطعم وسألوني :
ـ واي ذا فيار ان ستريت ؟
كنت أحفظ بعض الكلمات الانجليزي من أيام الدراسة فقلت :
ـ ذا فيار بيكوز بيبل ريام كيل بيبل عباس بيكوز بيبل عباس بيفور كيل بيبل ريام .!
وبعده عادوا يسألونني لكنني لم أكن أعرف شيئا فكنت أهز رأسي قائلا :
يس يس !!
بعد تلك التجربة من العمل في مطعم زرت رداع مرارا ومكثت فيها كثيرا ولكن كزائر لأصدقائي وليس كعامل فقد كانت تلك أول وآخر مرة أعمل فيها في مطعم، وأعتقد أن آخر زياراتي لمدينة رداع كانت قبل 9 سنوات وكانت زيارة خاطفة، وفي رداع الكثير من الأقارب وأصحاب البلاد لديهم محلات وبعضهم صاروا من كبار التجار ولا أدري كيف صارت رداع الآن ؟ !
أثناء سفري باتجاه حضرموت إلى مصر عام 2018م مررت برداع ليلا، كانت السماء تمطر ، والأضواء شاحبة والزحام ما يزال في فرزة جبن كعادته ، توقفنا في رداع للعشاء واستطعت أن ألتقي بأخي الذي يسكن هناك " عبد الرقيب " وبالأخ غالب محمد أحمد وشقيقه المتميز الأستاذ نبيل العمراني وعن أخلاقه الرائعة وثقافته الواسعة يحتاج الحديث لمقالات قادمة ، كان يومها اللقاء خاطفا ولمجرد السلام ، ثم واصلنا رحلتنا .
مضت سنوات وسنوات وما يقرب ربع قرن وما زلت أحن إلى تلك السعادة والراحة التي كنت شعر بها بعد العمل الشاق في المطعم .