بعد منتصف الليل استيقظ الناس في قريتنا على صوت رعد تبعه مطر فارتفعت الأكف لله بالدعوات بأن ينزل الغيث ويسقى الأرض العطشى، وهطل المطر وسمع الناس صوت السيول فأسرع البعض من الفلاحين على ضوء الفوانيس والكشافات إلى حقولهم يطمئنون هل ارتوت بالماء؟ ، ومع انبلاج النهار سارع الفلاحون إلى حقولهم ليجدوها قد ملئت بالماء وتحولت إلى برك متجاورة فاستبشروا خيرا وبعد أيام كان الجميع يرمون الحبوب في حقولهم ويرددون الأهازيج كأنهم في كرنفال جماعي بهيج .
كنت مع اخواني وأولاد عمي قد صعدنا إلى مؤخرة الجرار الذي يشق الأرض فنرمي الحب فيها حتى اذا فرغت أوعيتنا قمنا بملئها من جديد ولم تمض أيام حتى نبت الزرع وأخضرت الأرض واكتست الحقول ثوبها الأرض الأخضر البديع لكن المطر توقف وبدأ الزرع يضمر وتجمعنا في باحة المدرسة للاستسقاء ، واستغربت حين لبس الناس ثيابهم بالمقلوب وامرونا نحن الأطفال بأن نقلب ثيابنا فسارعت إلى قلب الكوت فسقطت فدرة الحلوى التي كنت اخفيها في الجيب الداخلي للكوت وتناثرت نقودي وهرع الأطفال يلقطونها ويفرون وأنا اطاردهم ومضت أيام ولم ينزل المطر وشح الماء في الآبار فأصيب الناس بيأس مخيف .
كنت انبش في خزانة جدي فعثرت على كتاب أصفر قد تمزقت الكثير من صفحاته وهالني ما قرأته : (واذا توقف المطر واستحكم الجفاف وازداد القحط وأردت نزول المطر فأكتب بالقلم اليراع على ورقة بيضاء من أول سورة الواقعة إلى قوله تعالى: ( وماء مسكوب ) ثم علقها على شجرة بحيث تصبح في مهب الريح وتهتز وحينها سوف يهطل المطر واذا استمر نزوله فمزق الورقة وحينها سيتوقف .
وفرحت بما قرأت كأنني قد عثرت على كنز ثمين ، إنها فرصتي التاريخية لإنقاذ الوضع في القرية ، اسرعت فوضعت الكتاب في النافذة وذهبت إلى الناس فورا ابشرهم بنزول المطر غدا ، البعض كانوا يقولون :- " إن شاء الله ربنا كريم ".
والغريب أن أكثرهم سخروا مني وضحكوا علي فأكدت لهم " ان موعدنا غدا واصبروا ولا تستعجلوا " فهزوا رؤوسهم ضاحكين ، لقد تحول الأمر إلى ما يشبه الرهان والتحدي بيني وبين الناس وبت في تلك الليلة وأنا أفكر في الأمر وأتساءل بيني وبين نفسي :
- ماذا لو لم ينزل المطر ؟ !
وأجيب :
- في النهاية سأخبرهم الحقيقة وأريهم الكتاب وليكن ما يكون .
بعد ظهر اليوم التالي بحثت عن الكتاب فلم أجده فتشت كل مكان فلم أجد له أثر وحين وجدتني أمي أبحث سألتني :
- هل تبحث عن الأوراق الصفراء التي في النافذة ؟
- نعم أين هي ؟
- أكلتها البقرة .
هرعت إلى المطبخ والشرر يتطاير من عيوني وأخذت السكين وقد عزمت على ذبح هذه البقرة المسعورة التي تأكل أي شيء ، لحقتني أمي تحذرني : " لا تجنن يا محمد هي بهيمة لا تعقل " .
رميت السكين وألهبت ظهر البقرة بعصا غليظة ففرت هاربة فاتبعتها برشقة أحجار ، ثم هدأت قليلا وقلت لنفسي :
- طالما قد حفظت السر فما هو الداعي للكتاب ؟ !
كتبت على الورقة بداية سورة الواقعة إلى الآية ( وماء مسكوب ) كما حفظت من الكتاب ثم علقتها على الشجرة وانتظرت هطول المطر ولكن المطر لم ينزل والجو لا يزال صحوا والسماء صافية لا سحابة فيها صعدت الأكمة التي بجوار منزلنا أبحث في كل الجهات فلم أجد حتى نتفة من سحاب أو بصيص أمل !
يا فضيحتاه .!
أيقنت بأني قد كذبت على الناس وانتهى الأمر ، سأصبح أضحوكة بين الناس لأشهر .
تناولت طعامي ثم قررت أنني قد هزمت ولابد أن أختبأ من الناس فدخلت إحدى الغرف وأغلقت النوافذ وحاولت النوم فلم يغمض لي جفن فقمت فتوضأت وصليت ودعوت الله أن ينزل المطر وأن لا يفضحني بين الخلق ، دعوت الله بحرقة وإخلاص وبكيت ثم واصلت الدعاء والبكاء وحين سمعت صوت يشبه الرعد قلت في نفسي : هذا صوت الكرة في الملعب المجاور لمنزلنا .
وواصلت الدعاء والنحيب ولم أعلم كم مضي من الوقت ما أتذكره أن الريح من شدتها أطارت النافذة من مكانها فرأيت مطرا لم أره في حياتي ومن شدة فرحي سجدت شكرا لله وتواصل المطر واشتد فداخلني خوف شديد وأيقنت بأننا سنغرق فعلا فعدت أدعو الله أن يوقف المطر وخف المطر رويدا رويدا وخرجت إلى الناس مرفوع الرأس فهرعوا يقبلون يدي ويتبركون بي ولكنني خشيت من الفتنة وأن يداخلني الغرور وأصدق فعلا أنني ولي من أولياء الله الصالحين وأنني صاحب كرامات ومستجاب الدعاء ففرت إلى قرية أخوالي لكنني ما ان وصلت عندهم حتى كان الخبر قد سبقني إليهم وبعد وصولي لمنزل خالي تجمعت بضعة نسوة تتقدمهن خالتي التي طلبت مني أن أكتب لهن تمائم كي يحملن ويرزقهن الله بذرية صالحة وحينها فررت من قرية أخوالي وعدت إلى قريتي من جديد .!!
* من مجموعتي القصصية ( عن محاولتي الفاشلة للوصول إلى القمر ) وهي أول مجموعة نشرت لي .