الحلقة الأولى
لم أكن أعلم الغيب فعندما خرجت في ذلك اليوم كنت أمشي في الشارع آمنا مطمئنا ولم يخطر ببالي أن كل هذا سيحدث لي ، كنت غارقا في هواجسي وفجأة أجد نفسي محشورا بين وجوه مكفهرة وسيارة تسرع بنا إلى حيث لا أدري ، بصراحة لم أعد أتذكر كيف نزل هؤلاء الغلاظ الشداد وقذفوني فيما بينهم ، وهكذا في ثواني صرت مخطوفا من قبل أشخاص لا أعرفهم ولا أعلم سببا اختطافي ولا كيف سيكون مصيري ؟!
لم يتركوا لي مجالا للمقاومة أو الاستفسار ومعرفة ماذا يحدث لي ، ربطوا علي عيوني شالا غليظا وآخر في فمي ووضعوا القيد في كلتا يداي وقال أحدهم :
ــ خليك هادئ من أجل لا نمد أيدينا عليك .
وبالفعل هدأت وسلمت أمري لله ، ومضت بنا السيارة حوالي نصف ساعة حتى توقفت وسمعت صوت بوابة كبيرة يفتح ، دخلنا حوش منزل وانزلوني معصوب العينين موثق ، قادوني إلى باب فتحوه بصعوبة ثم نزلنا درج ما زلت أتذكر أنها عشر درجات حينها عرفت اني في بدروم قام أحدهم بإرخاء الرباط حول يدي ثم مضوا وأوصدوا الباب الغليظ خلفهم وخفتت أصواتهم حتى عم الهدوء في المكان .
فككت الرباط وحررت يداي ثم فككت الشال الذي يلف عيوني والذي يغطي فمي فوجدت نفسي في بدروم معتم يتسلل إليه ضوء خافت من نوافذ صغيرة مستطيلة في أعلاه وبه بعض إطارات السيارات وصناديق مغلقة ، وفي الزاوية فراش اسفنج وبطانيتين وفي الجهة اليسرى حمام نظيف نوعا ما .
ما زلت حتى اللحظة غير مصدق ما يحدث لي ؟!
أتحسس نفسي هل أنا في كابوس أم في حقيقة ؟!!
ويحاصرني السؤال : من هم وماذا يريدون هؤلاء مني ؟!!
وماذا فعلت لهم ؟!
تمنيت أنني في كابوس لأصحو منه ، ولكنني وجدت نفسي بالفعل في أحد كوابيس اليقظة والله وحده يعلم كيف ستكون نهاية هذا الكابوس ؟!
تكومت على الفراش أفكر وأتساءل : لست بتلك الشخصية المرموقة والمعروفة ولست بذلك الكاتب الشهير صحيح أنني نشرت مئات المقالات والقصص في الصحف ولكنني في الفترة الأخيرة خففت من الكتابة بل وطلبت إجازة من الصحيفة التي أعمل بها وآخر مقال لي كتبته منذ حوالي شهر ، دعوني من المقالات والصحافة الآن أنا في ورطة حقيقية ومؤكد أن هذه المقالات هي التي علي ، صحيح لا زوجة لي تخاف علي من تبعات عملي ولا أولاد ينتظرون بكل براءة ولهفة عودتي إلى البيت ولكن : ماذا سيحدث لأمي ان علمت باختفاء ابنها في صنعاء ؟!!
هذه المسكينة هي من ستدفع ثمن غيابي وضياعي في هذا البدروم البارد .
أستطيع توقع وتخيل كل شيء إلا حال أمي عندما تعلم باختفائي فهذا أمر فوق مستوى استيعابي ووحده الله من سيلطف بها إن لم تجن بسبب ضياعي .
لو كنت في السجن على الأقل مكاني معروف للجميع ومعروف من هو غريمي والجريمة التي ارتكبتها لكن الآن مخفي قسريا في مكان مجهول وغريمي مجهول ولا أعرف سبب اعتقالي واخفائي وإلى متى سأبقى هنا ؟!
وكيف سيكون مصيري ؟!
جمعت الكراتين الفارغة وفرشتها وفرشت الفراش والبطانيات فوقها ورتبت لي مكان كأنني طالب في القسم الداخلي بمدرسة ثانوية ، تمددت على الفراش وتغطيت بمخاوفي وفجأة أضيء المكان ، لقد عاد التيار الكهربائي فقمت أتأمل المكان من جديد وقمت أفحص الأشياء التي كانت مختفية عني في العتمة .
في الزاوية حمام نظيف نوعا وخلفه مغسلة ، فتحت الحنفية لأتأكد من وجود الماء فأنسكب الماء بارد .
دولاب صغير منتصب في الزاوية الأخرى أسرعت إليه ، فيه بعض الكتب والمجلات القديمة كانت كتبا عسكرية وأعداد قديمة من مجلة العربي من حقبة التسعينات قدرتها لأول وهلة بمائتي عدد وفرحت بها فأنا من عشاق مجلة العربي خاصة أيام رئاسة تحرير الدكتور محمد الرميحي كانت العربي رائدة ورائعة وبها مواضيع قيمة جدا ومؤكد انها ستسليني في هذا المكان الموحش.
أليس من السخف أن أكون في هذا الوضع ومن ثم أحدثك عن مجلة العربي ؟!
وعاد القلق إلي وعادت التساؤلات :
ترى هل هناك خطأ ما ؟
مثل تشابه بالأسماء مثل ؟
ترى ماذا سينتظرني هنا ؟
وكم سأبقى في هذا البدروم ؟!
الكارثة الكبرى أن ينسوني هنا حتى أموت جوعا وحينها لن تنفعني مجلة العربي حتى لو وجدت أعدادها الكاملة .
الجوع السريع أحد أعراض السكري التي أعاني منه ، لقد بدأ الجوع فعلا يتسلل إلى معدتي فهرعت إلى الباب أطرقه بقوة وأصرخ :
ــ يا ناس يا خلق الله أخرجوني من هنا أنا ما فعلت حتى تحبسوني ؟!!
كررت الصراخ وواصلت طرق الباب الحديدي الثقيل ولكن لم يستمع أحد ولم أجد إجابة وعدت أصرخ :
ـ أنا جائع وعاطش خافوا الله ما أنا فعلت لكم ؟!!
طرقت الباب بكل قوتي ولم أجد سوى السكون الموحش كأننا في مقبرة موحشة خارج البلدة .
ومرت نصف ساعة وأنا أطرق الباب الحديدي الثقيل وأصرخ ولكن « ما فيش فائدة « لا صوت لأحد .
عدت أتكور بجوار الباب ولسان حالي : ( ليس لها من دون الله كاشفة ) .
يا الله أفرجها علي يا رب .
يا الله أسألك لا تكون هذه البيت خالية من السكان وأن لا تكون نهايتي هنا في هذا المكان الموحش وأن يأتي من ينقذني من هذا الكابوس .
وجدت دموعي تنسكب رغما عني فما أمر قهر الرجال وما أفزعه .!
يئست أن يسمعني أحد فعدت إلى الفراش وانفجرت قهرا وبكيت بكيت بكل حرقة وألم بعد ذلك البكاء أحسست بارتياح غريب فتمالكت نفسي وفزعت إلى الدعاء والاستغفار .
مهما فعلوا بي فالله مطلع على كل شيء وهو من أخرج يونس من بطن الحوت وسيخرجني من هذا البدروم بحوله وكرمه .
بعد أن تذكرت هذه الحقائق شعرت بسلسبيل بارد من الطمأنينة والأمن والرضا بقدر الله يهطل على قلبي ، نظرت في ساعتي كانت الساعة الثالثة والنصف عصرا فذهبت للحمام وتوضأت وصليت على كرتون نظيف في الزاوية لم أكن أعرف اتجاه القبلة لكنني توجهت إلى الله وصليت بإخلاص كأنني أصلي لأول مرة في حياتي ، خاطبت نفسي الأمارة بالسوء وخاصمتها وصرخت في خوفي :
ــ يا ابن أمك عاد الدنيا عوافي ما قد حصل ؟!!
يحتجزوك ساعات فتكاد تقتل نفسك رعبا وخوفا ، ربما أخطأوا باختطافك وكانوا يريدون شخصا آخر فشبهت لهم فحدث ما حدث ، وجل من لا يخطئ ، أصبر قليلا وسيأتون لإخراجك بل وسيعتذرون لك ويحكمونك بالبنادق وجاه الله وحينها سترفع رأسك وستشمخ بأنفك كشيخ قبلي أستجد به أحدهم وكسر عكف جنبيته أمامه.
وحينها إن حدث ذلك ستنادي فيهم :
ـ تحكيمكم مقبول وكلمة الرجال تقرح مثل البندق والناس يغلطوا والمسامح جيد وعاد احنا قبائل .
انطفئت الكهرباء مجددا وعاد الظلام يخيم على المكان ، شعرت بالجوع بالبرد والرطوبة فانكمشت تحت البطانية لتعود المعركة محتدمة بين ايماني وخوفي وفي تلك المعمعة النفسية القاسية قفز المثقف الذي يسكنني وهب واقفا يصرخ بي بلهجة خطابيه :
ــ أي جرم تقترفه بحق نفسك وانت تسمح لأرتال من الإحباط ومجاميع من اليأس ان تهجم على قلبك وروحك عند أول اختبار ؟!
ــ هل هذه هي ثمار ثقافتك وقراءاتك ؟!
ــ كم مكث نيلسون مانديلا في السجن ؟!!
ــ ألم تقرأ قصص الأحرار والثوار وكم مكثوا في السجون ؟!
ضحكت من هذا المثقف الذي بدا لي يرطن بحديث أجوف وهو بعيد عن الواقع وقلت له :
ــ نيلسون مانديلا كان في السجن وكان وراءه شعب جنوب أفريقيا الذي يحمل قضية الحرية والمساواة وكان يراه زعيما ملهما وكان سجنه مشعل الحرية وحافزا على الكرامة لكني من أنا ؟!
لا شيء أنا نكرة وحتى لو عرفني بعض قراء الصحف والمواقع الإخبارية فمن الذي سيخبرهم أني هنا ؟!!
وحتى لو بلغهم خبر اختفائي فما عساهم سيفعلون ؟!
لو كنت بالسجن لهان الأمر على الأقل مع أشخاص من المسجونين والكل يعلم بقضيتي وبمكاني ، وأمي مطمئنة علي ، لكني الآن مخفي قسريا في بدروم وفي مكان مجهول ، ولا يعلم بمكاني سوى من اختطفوني ، ولا يعلم بمصيري إلا الله ، تذكرت قصة الثلاثة التي انطبقت عليهم صخرة في مغارة ثم أخرجهم الله بعد أن دعوا الله بخالص أعمالهم لهجت إلى الله بدعاء نبيه يونس في بطن الحوت « اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» .
عاد التيار الكهربائي فشعرت بفرحة وقمت أتوضأ وأصلي وأدعوا الله ان يفرج همي وينقذني مما أنا فيه .
يتبع في الحلقة القادمة ..