الحلقة الثالثة
في البدروم حيث كنت مخفي قسريا كان الوقت يطول وكأنه يمضي بخطى سلحفاة منهكة ولذا فقد حاولت أن أشغل نفسي بأي شيء لأقتل الوقت وكانت المفاجأة التي خففت علي سجني وقلقي على حال أمي في ظل غيابي عنها أنني وجدت بضعة أعداد من مجلة « العربي « فأخذت أنفض عنها الغبار وبدأت أقلبها وأتصفح مواضيعها ولكنها رغم شغفي الشديد بها وبقراءتها عندما كنت خارج البدروم لم تستطع أن تنتشلني من هواجسي التي عاودت مداهمتي وأمطرتني بتساؤلات تبحث عن إجابة: من تكون هذه المرأة؟!
ــ هل هي مكلفة من قبل من خطفوني بأن تقدم لي الأكل والشراب في اطار تبادل الأدوار بينهم ؟!
ــ ألا يمكن أن تكون هذه المرأة جزء من المسرحية التراجيدية التي أعيشها الآن رغما عني ويكون زوجها البطل الذي لم يظهر على مسرح الأحداث يقوم هو بدور الخاطف وتلعب هي دور الضحية المغلوبة على أمرها ؟!
ــ ربما هي مكلفة بأن تنتزع مني المعلومات بطرقها وقد تجوعني حتى أعترف لكن من أنا وأي معلومات لدي تستحق المسرحية هذه كلها ؟!!
هم يعلمون بأنني صحفي عادي انتقد الواقع وأتناول المستجدات الراهنة بالتحليل وأعلق عليها وأستشرف المستقبل من خلال المؤشرات والمعطيات التي أراها لكن هل يستبعد بأن لديهم شك بأنني أعرف أشياء هامة ولدي وثائق وأسرار خطيرة وأشياء من هذا القبيل ؟!
انتشلني من هواجسي صوت طرق الباب ووصول نسائم رائحتها فتبخرت كل تلك الهواجس والظنون وأسرعت أجيب .
ــ نعم
ــ أستاذ أنت « تخزن « تمضغ القات ؟
ــ نعم
ــ طيب سأرمي لك بشوية عيدان من النافذة
ــ ربنا يكرمك وشكرا على تعبك معي
ـــ القات موجود أصلا أنا أخزن
رمت رزمة من عيدان القات الفاخر من النافذة فأخذتها وغسلتها وأخذت البطانية والفراش إلى جوار باب البدروم كانت رائحتها ما تزال تطير في المكان .
ناديتها :
ــ ممكن سؤال ؟
ــ نعم تفضل
ــ هل أنت سيدة هذا المنزل ؟
ــ أنا سجينة في هذا المنزل محبوسة في هذا الكهف المهجور انسانة شقية قدرها أن تحرق عمرها في هذه الخرابة الموحشة .
صدمني حديثها ووضعها القاسي ان صح قولها فاندفعت أحدثها :
ــ يعني لست أنا وحدي السجين والمخفي قسريا لقد أتسعت قائمة الضحايا لتشمل غيري من أهل البيت إيه كم من سجناء هم في الحقيقة طلقاء وكم من محبوسين في ثياب أحرار ومظاهر طلقاء وياما في السجن مظاليم .!
تنهدت وانداحت تبوح بألآمها :
ــ لم يخطر ببالي يوما ان نهايتي ستكون في هذا الكهف الأنيق كنت في بداية شبابي شقية في البيت والمدرسة وممتلئة بالحياة مرحة أصنع الفرحة وأثير المرح وأمامي أفق أخضر مفتوح على أحلام كبار ومشاريع شتى وكنت أرى نفسي أسعد انسانة بالدنيا باختصار كنت دلوعة العائلة والبنت الوحيدة في الأسرة وتقدم لخطبتي كثيرون وكنت أرفض وقررت أن أكمل دراستي حتى أتخرج من كلية الطب وأتخصص في الطب النفسي ، قاطعتها :
ــ لماذا الطب النفسي بالذات ؟!
ــ حتى أستمع بإنصات لشكاوى النساء اللواتي لم يجدن من ينصت لهن ويستمع لهن وهن يروين الآمهن وآمالهن ومشاكلهن ويعالج جروح قلوبهن ويلملم شتاتهن العاطفي والمعنوي وينصحهن ويقدم لهن الاستشارات المطلوبة .
ــ وما الذي منعك من اكمال دراستك ؟
ــ جاء الفندم
قاطعتها على الفور
ــ من هو الفندم هذا ؟
ــ الذي جاء بي إلى هذا الكهف الفندم هو زوجي في وثيقة العقد وأمام الناس وهو سجاني في الحقيقة .
كدت أسألها من هو الفندم الذي سجنها وسجنني إلا تمالكت نفسي وأمسكت أعصابي وتركتها تروي .
ــ جاء الفندم إلى منزلنا لأنه كان صديق الوالد وكان في تلك الفترة ما يرتاح يخزن إلا في بيتنا وذات يوم طلب مني والدي أن أغسل قات الفندم فغسلته ونشفته وطويته بمنشفة وجئت به وطرقت الباب لكي يخرج والدي إلى الصالة لأخذ القات فلم يخرج فظننت أنه لم يسمع فكررت الطرق وفوجئت بالفندم يخرج بنفسه فارتبكت ووضعت القات على الأرض وهربت وأنا في غاية الخجل ولقيت أبي في الدرج وهو طالع في الدرج إذ نزل ليأتي للفندم بأوراق مهمة نساها في السيارة وحين لمته لماذا لم يخبرني بأنه سينزل حتى لا أذهب وأقع في الاحراج رد علي باستغراب :
ــ وما فيها الفندم عمك وزي أبوك وأنت زي بنته ؟!!
وبعد نصف ساعة نزل أبي من المجلس وطلبني على انفراد وهو مبتسم والفرح يطفح من وجهه وقال لي :
ــ ابشري يا بنتي الفندم خطبك مني وأنا وافقت
ــ ايش قلت يا به خطبني وانت وافقت ؟!
ــ إيش فيها ألف بنت تتمناه يا بنتي سيسكنك بفيلا ويعيشك أحسن عيشة كأنك أميرة خليجية أحمدي الله عل رزقك أنا أديت كلمتي للرجال خلاص .
بكيت وحاولت الرفض إلا أن أبي وضعني أمام أمر فضيع إذا صرخ بي ليلتها قائلا :
أنت تظني أني أقدر أرفض له طلب اذا رفضت طلبه سيضيعني الفندم دولة يا بنتي « ملكا يأخذ كل سفينة غصبا « وحينها وحتى لا يضيع أبي وينقم على أسرتي ويبطش بهم وافقت على الزواج مكرهة وكان ما كان ولا داعي للتفاصيل لقد ضحيت بنفسي ليظل أهلي وأسرتي في نعيم ولا يمسهم سوء ودست على كل اشواقي وأحلامي وتزوجته والآن يأتي إلى هذا البيت بشكل نادر يتصل بي وهو في مكتبه او في مقيله « الليلة سآتي أسمر عندك « فأنتظره وأنتظر فيأتي في منتصف الليل أو قبل منتصف الليل قليل يصل مهدما متعبا وعندما يجلس على أقرب كرسي ينام على الفور فأوقظه وأدخله غرفة النوم وفي كثير من الأحيان ينام بملابسه ويصحو شاكيا من تعب العمل والإرهاق والمشاغل والمشاكل ومطالب الناس ويغادر المنزل عند أول اتصال يتلقاه .!!
قلت لها مواسيا :
ــ الله يكون بعونك أنت ضحيتي تضحية كبيرة ودست على قلبك وأحلامك ولكن هؤلاء الناس الذين يعملون في مناصب كبيرة من الطبيعي أن ينشغلوا هكذا ويتعبون ويظلمون زوجاتهم ويقصرون معهن ولكن يعوضوهن من أبواب أخرى والصبر مطلوب خاصة مع وجود الأطفال .
تنهدت بعمق واختصرت تنهيدتها قصة مأساوية مغلفة بالفخامة والارستقراطية ، معاناة ما تزال طي الكتمان ولم تخرج للعلن .
ـــ لو كان لي أطفال لهان الأمر على الأقل سأشعر بطعم آخر لتضحيتي سأكون أم تضحي من أجل أطفالها سأنشغل بهم وسيؤنسونني في وحدتي ولكن للأسف لم يعد الجنرال قادرا على الانجاب هو قادر على اصدار الأوامر وسجن الناس ومعه أدركت ما هو صبر أيوب وكل هذا لأجل أهلي لا أنكر أنه حسن كثيرا من مستواهم ومنحهم قيمة معنوية في المجتمع بمصاهرتهم هذه حقيقة لابد أن تقال ورغم اننا من اسرة عريقة ومن أصول معروفة لكن لم تعد لهذه الأصول قيمة كبيرة عند كثيرا من الناس وأنت تعرف كيف ينظر المجتمع للفقير والذي لا سند له ولا ظهر أو مال باختصار لقد كنت عروسة المولد التي تم التضحية والحمد لله ان أهلي لم يخرجوا من المولد بلا حمص .
ــ حاولت مجددا مواساتها وسكب قطرات باردة على قلبها : على الأقل هناك قيمة معنوية كبيرة لتضحيتك هناك أبوان يدعوان لك وأهل يقدرون تضحيتك من أجلهم .
ـــ المشكلة أنهم لا يقدرون لا أبي ولا أمي ولا احد يقدر ما فعلته من اجلهم ويقولون لي « أحمدي الله أنك زوجة الفندم وقد جعلك تعيشين في قصر وأعطاك كل شيء ماذا تريدين أكثر من هذا ؟!»
يا الله كم هو مؤلم أن يضحي المرء بسنوات عمره وبشبابه سجينا في قصر أنيق ولا يدرك حجم هذه التضحية الكبيرة ويعرف فعلا مدى هذا الألم إلا من أكتوى به وعاشه وتجرعه لسنوات فليس الخبر كالمعاينة ولا من يأكل الحصى كمن يعدها كما يقال .!
******