على مدى سبع سنوات من عمر الحرب الدائرة في اليمن بتداخلاتها الإقليمية، وأبعادها الدولية، بدا أن السلاح هو أكفأ الوسائل في رسم خارطة النفوذ وفي تقرير مصير اليمن، بغض النظر عن المستقبل الذي يمكن أن يلد من رحم هذه الحرب المدمرة والطويلة وعديمة الأفق. وعبر هذا السلاح يجري فرض لاعبين إقليميين جدد على أرض شبه مستباحة تقريباً من المتدخلين الخارجيين، كما جرى ويجري التمكين لأسوأ اللاعبين المحليين وإشراكهم في مخطط بناء السلام المزعوم الذي قال المبعوث الأممي إنه بصدد بناء إطار جديد بشأنه .
منذ بداية الحرب وأثنائها جرى، وبشكل ممنهج ومقصود، وضع كميات كبيرة من السلاح الثقيل والمتوسط والخفيف، وكذلك الأسلحة النوعية الأخرى كالصواريخ والطائرات المسيرة والقذائف الحرارية، بأيدي الجماعات التي تهدد كيان الدولة، وتفرض مشاريع سياسية تهدد السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية وسلامة الدولة وكيانها القانوني. ومعظم هذا السلاح وضع بأيدي الحوثيين، فيما تكفلت دولتا التحالف بإيصال الكميات المناسبة والمكافئة لجماعات مسلحة تعمل خارج نطاق الدولة وتهددها .
وفي مقابل ذلك جرى تجريد الشعب اليمني وجيشه ومقاومته من السلاح، وارتهن معظم هذا الشعب لإرادة المتحكمين بمنافذ البلاد ومياهها الإقليمية وسمائها وأرضها، بحيث لا تطلق رصاصةٌ واحدة إلا حيث يريد المتحكمون أن تطلق وبأي اتجاه. لذلك فقد المئات من قادة الوطن ومقاتليه حياتهم بفعل الضربات الجوية التي استهدفتهم عندما كانوا يحاولون التقدم باتجاه العدو على مشارف صنعاء، وفي مناطق مختلفة من مناطق الاشتباكات الحيوية .
شاءت الأقدار أن يكون أصحاب القضية العادلة وهم معظم الشعب اليمين، بلا غطاء إقليمي أو دولي، فقد حُمِّلُوا فوق ما يَحْتملُوا من الاتهامات والتقديرات الخاطئة، والتصورات الموجهة التي جعلت من اليمن ساحة معركة مع أعداءٍ مفترضين غير واقعيين، كالجماعات الإرهابية التي تبين أنها مجرد أدوات يجري التحكم بها من غرف العمليات الأمنية المحلية والإقليمية .
الشعب اليمني كان ولا يزال يعتقد أن المشكلة تكمن في إجهاض عملية الانتقال السلمي الديمقراطي إلى مرحلة الدولة المستقرة التي يعيش فيها جميع أفراد الشعب اليمني ومكوناته بدون مزايا أو استثناءات لأي طرف، وأن السلاح ينبغي أن يُستخدم بكثافة لتحييد القوى التي تَحُول دون استئناف عملية الانتقال السياسي، وتحاول فرض مشاريعها التي بات واضحاً أنها تهدد البيئة الأمنية الإقليمية برمتها وليس اليمن فقط، لأنها(المشاريع) بكل بساطة تحتفظ بامتدادات حيوية مع أجندات إقليمية خطيرة؛ لا تمثل الهجمات على أبو ظبي وجنوب المملكة العربية السعودية إلا إحدى تجلياتها المرئية، مع إمكانية أن تتحول إلى موجة من الحرب الغاشمة العابرة للحدود والتي تهدد بها إيرانُ المنطقة بكاملها عبر تشكيلاتها المسلحة التي بدأ بعضها (ألوية الوعد الحق العراقية) يتبنى هجمات على أبو ظبي .
أنتج التحالف العربي الذي يضم كلاً من السعودية والإمارات خارطة صراع أثقلت على اليمنيين، فالجبهات تشتعل تارة وتخبو تارة دون إنجازات حقيقية. هذه الخارطة، لم تعد للأسف تحمل أي وعد بالأمل والخروج من دائرة الحرب المفرغة هذه، لا لأن التحالف يفقد القدرة على إعادة توجيه الحرب نحو أهدافها المشروعة، وإلحاق الهزيمة بالحوثيين ومن خلفهم إيران، ولكن لأنه يعتقد أن بوسعه أن يصمم وضعاً جيوسياً، سيتكفل اليأس المستبد باليمنيين وحده، في القبول به وتحويل مفاعيله من لاعبين وقوى مسلحة، إلى حقائق راسخة على الأرض، وقد بدأت ملامحها تتشكل بالفعل حيث تتوزع القوى المسلحة على الجغرافيا اليمنية المستباحة (المحررة) وتلك الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي الطائفية المسلحة .
هذه القوى جميعاً وفي ظل غياب الدولة المعترف بها دولياً؛ تقوم بفرض المشاريع السياسية المتصارعة وتفرض الإتاوات وتمهد الطريق أمام انتقال اليمن إلى دولة فاشلة جديدة جنوب الجزيرة العربية، تتنازعها القوى المتصارعة المتخادمة مع أسوأ الأجندات الإقليمية .
على خط الصراع تتسلل مصر، ليس عبر البارجات أو الطائرات بل عبر نواة من ضباطها، إلى مناطق إعادة التموضع التي قامت بها قوات سعودية في محافظة المهرة على الحدود مع سلطنة عمان، وأخرى إماراتية في محافظة شبوة التي أطيح بمحافظها الموالي للشرعية .
ينفتح الوجود المصري القابل للتطور إلى حد التأثير والتحكم المتوقعين بمضيق باب المندب، على رسائل عديدة منها :
- أن السعودية معنية بالتقليل من المخاوف العمانية من تواجدها العسكري الكثيف في محافظة المهرة، لهذا قررت الانسحاب وبدء مرحلة جديدة من التواجد المصري العسكري ذي الطبيعة التدريبية .
- مضي الضباط والجنود المصريين في مهمة تدريب قوات جديدة في كل من المهرة وشبوة، لتكون حوامل خشنة للدولة العميقة المستعادة بالتدريج، وتحقق في السياق ذاته أهداف التحالف التي هي جزء لا يتجزأ من الثورة المضادة، خصوصاً فيما يتعلق منها بتصفية الجيش الوطني عبر بناء قوات جديدة وإعادة هيكلة القوات الحالية، قيادات وتسميات وأدواراً، بجريرة صلة الجيش المزعومة بـ"الاخوان المسلمين ".
- تكشف عن حاجة مصر إلى المشاركة في مخطط الهيمنة على باب المندب، لما لذلك من أهمية في تعزيز نفوذها ورفع جهوزيتها في التعاطي مع التحديات الجيوسياسية الناشئة في القرن الأفريقي، وخصوصاً على خلفية الصراع مع إثيوبيا حول بناء سد النهضة .
وفي خط مواز يمضي المبعوث الأممي إلى اليمن، هانز غرودبرغ، في مخطط جديد و"مبتكر!" تماماً كسلفه مارتن غريفيث، أطلق عليه اسم "إطار عمل" بشأن تسوية سياسية شاملة، وأنه في ختام العام السابع من الحرب سيبدأ "سلسلة من المشاورات الثنائية المنظمة التي تهدف لتنظيم إطار العمل وإدخال تحسينات عليه ".
يرتكز هذا الإطار على التفاعل مع الأطراف المتحاربة، والأحزاب السياسية، وممثلي المجتمع المدني، وخبراء بالمجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وهذا يعني أن الأمم المتحدة تمضي خلف الحرب ولا تستبقها، وتُعنى بترتيب نتائج الحرب لا بإرباك خطط المتحاربين .
ولكي يبقي هذا المبعوث على دوره، ويستمر في التصرف بميزانية سنوية لمكتبه الذي يتخذ من العاصمة الأردنية مقراً له، والبالغة 20 مليون دولار، فإنه معني بتدارك أن تمضي الحرب باتجاه التقليل من مكانة الحوثيين ونصيبهم من الجغرافيا ودورهم الجيوسياسي .
لا أشك لحظة واحدة في أن المبعوث الأممي كرس معظم مقابلاته التي أنجزها خلال الأيام الماضية، مع كبار المسؤولين الأمريكيين في واشنطن، للتركيز على منع الإدارة الأمريكية من إعادة تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية. فالرجل يريد أن يعمل بالأريحية ذاتها التي عمل بها سلفه، إذ إنه ما من طرف سيطالبه بالمزيد أو بتحرك حقيقي لإنهاء الحرب، عبر إنهاء مسبباتها، وليس بشرعنة هذه المسببات .