الحلقة السادسة
في ليالي صنعاء الباردة أعيش وحيدا ويشغلني التفكير بمصير أمي وقد أنقطع صوتي عنها أفكر بحالتها ويتضاعف ألمي وأشعر بلقبي يكاد يتمزق وأتساءل بألم :
ــ ما ذنب هذه المرأة المسكينة تعيش كل هذا العذاب بحثا عن ولدها المفقود ؟ !!
يا ترى كيف سيكون حالك يا أمي ؟ !
مؤكد أنها في وضع لا يعلمه إلا الله وأن فؤادها فارغا من دوني كفؤاد أم موسى عندما ألقت طفلها الرضيع في البحر .
ورغم أن تفكيري بأمي كان يشغل المساحة الكبيرة في ذهني إلا أنني كنت أتذكر أنني كنت أحلم أحيانا كمراهق بأن تخرج أحداهن من صفحتها في الفيسبوك لتسمر معي سأقاسمها قاتي ومصروفي وسأحكي لها عن غربتي ولن أمسها بسوء وكان على إحداهن ان تهاجر من عالمها الافتراضي لتقضي معي حتى ليلة واحدة ولكنني لكثرة ما سمعت من أحاديث وقصص متواترة عن تنكر رجال بأسماء نساء في الفيسبوك يئست من حدوث أمر كهذا وصرت أرى في نساء الفيسبوك رجال بشوارب كثة وبمكر نصابون محترفون يمتصون من الشباب المراهقين المصاريف وكروت إم تي إن ويمن موبايل بكلمات معسولة وأنوثة مزيفة زيف السياسي اليمني العابر للأحزاب والذي يتحدث دوما عن ضرورات المرحلة ومقتضيات الفترة الانتقالية وضرورة الاصطفاف الوطني وراء القائد الضرورة والزعيم الرمز .
كنت أتذكر هذه الأحلام الطائشة وأضحك على سخافتي وقلة عقلي وبدل من أن أتعرف بإحداهن وأعيش معها في خيالي ألقي بي من قبل مجهولين في غياهب هذا البدروم وسأظل فيه إلى أن تدركني رحمة الله ثم يعفو هؤلاء الناس عني هذا إذا لم ينسوني هنا .
مؤكد أن هذه المرأة ليس لها صفحة بالفيسبوك لوا تعرف تويتر ولا انستغرام ولكنها تتابع الأخبار باهتمام ربما لأن زوجها قائد عسكري ومسئول كبير ومصيرها مرتبط بمصيره ومؤكد أنه يخبرها بمعلومات هامة جدا .
جاء المساء وجاءت معه وأخبرتني أن رمضان بعد يومين فجاشت في نفسي مشاعر شتى وتساقطت الدموع رغما عني كنت آمل قبل اختطافي إلى هذا المكان أن أقضي شهر رمضان في القرية وأجعله إجازة روحانية أرتاح فيها من متابعة الأخبار والكتابة ووجع القلب وعالم السياسة المليء بالمؤامرات والمكايد والمخاوف ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .
أخبرتني بدون مقدمات أن اسمها " إقبال " وأنها تشعر بخوف بعد أن قام قادة في الجيش بترحيل عائلاتهم من صنعاء إلى الخارج وأن الحرب تقترب من صنعاء وأن مليشيا الحوثي وصلت أطراف مدينة عمران وأن الحشود من كل جانب والأمور تتجه نحو التصعيد والانفجار .
زادت إقبال من مخاوفي لكأنه لا يكفي انني مخفي قسريا وسجين حتى أضيف إلى مأساتي هذه الأخبار التي توجع القلب .
ــ يا إقبال الله يحفظك لا أريد سماع مثل هذه الأخبار التي توجع القلب يكفيني ما أنا فيه ألا يوجد معك قصص من الطفولة من الحياة نوادر وطرائف ومواقف مضحكة ؟ !
ــ اعذرني حتى اني لا أريد سماع هذه الأخبار لكن هذا ما يحدث للأسف ومشكلتي أنني لا أحب القراءة كنت أيام المدرسة أقرأ المقرر الدراسي أيام الامتحانات مضطرة لكن يعجبني سماع القصص .
تنهدتُ حينها وأنا أتذكر أيام الامتحانات زمان كنت معقدا من الرياضيات وحكيت لإقبال حينها قصتي الحزينة مع الرياضيات ومؤخرا قرأت في رواية " تبادل الهزء بين رجل وماضيه " قصة لبطل الرواية تشبه قصتي مع الرياضيات ، كتب محمود ياسين عن العزي في شبابه كأنه يكتب عني " أيام العمر الغنائي وقعت ضحية للرياضيات التي استحوذت على كامل تواجدي الذي أصبح مهدد تماما أذكر الرياضيات ولا أصدق إلى الآن أنني نجحت فيها بخمسين درجة " ويبدو أن قصة العقدة من الرياضيات تكررت عند الكثير من الطلاب في الثانوية وكان الكثير منهم يردد مقولة " جبر وهندسة يساوي الهروب من المدرسة " شخصيا كنت أرى الرياضيات مثل الكابوس المخيف كنت أنجح في كل المواد بمعدل يزيد عن التسعين واحنب بالرياضيات التي تحولت من مادة دراسية إلى كابوس لازمني لعامين ذلك أنني رسبت في ثالث ثانوي وأعدت دراسة ثالث ثانوي في السنة التالية من أجل الرياضيات وشكل رسوبي حدثا في المنطقة فقد كنت الطالب الأول والذكي وكنت أحرر مجلة المدرسة وادير الاذاعة المدرسية وأتحدث في المهرجانات والمناسبات وأرسل مقالاتي إلى الصحف وارسب في الرياضيات .!
كانت الرياضيات نقطة ضعفي القاتلة كرهت الجا والجتا والظا والظتا والمصفوفات والاحصاء وهذه المعادلات التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟ !
كنت يومها أتساءل: ما هذه الحكابش والشخابيط والأرقام والعقد والدبور يا الله حلها ؟ !!
وكنت أتذكر اختبار الرياضيات في آخر العام كمن يتذكر موعد إعدامه وأحيانا كنت اجهش بالبكاء وأرى نفسي ضعيفا قليل الحيلة في مواجهة كابوس الرياضيات .
أنا درست في الثانوية أدبي هروبا من الرياضيات ولكن حتى الأدبي لم يكن جنة بلا منغصات فكتاب الإحصاء مادة أساسية و" يا هارب من الموت يا ملاقيه " .
ما زلت حتى اللحظة لا أستطيع وصف مشاعر فرحي بنشر صحيفة " الصحوة " لإحدى قصصي القصيرة كانت فرحة بحجم الكون وأنا أخوض أول تجربة في النشر ولكن " يا فرحة ما تمت " لقد بلغني خبر رسوبي وشعرت أنني أهوي من شاهق إلى قعر سحيق وأن جبلا قد تداعت صخوره فوقي وأيقنت أن كل ما بنيته من سمعة " الطالب الذكي " قد أنهار في لحظات .
لقد كان حينها خبر رسوبي كارثيا بكل المقاييس صحيح لم تكن نهاية العالم لكنني كنت حينها قليل عقل وقلت لابن عمي والأسى يحيط بي " لقد بخلو علي بدرجتين في كل المواد بمعدلات مرتفعة جدا وفي الرياضيات فقط " 48 " من 50 % كان باقي درجتين الله يكسر يده الذي صحح أوراق الامتحانات .
وحاول ابن عمي مواساتي كان قريبي الوحيد في مدينة قاسية لم ترحم هذا القروي القادم بغباره وطموحاته من قرية نائية في ريف إب .
في العام التالي كانت قصتي أو بالأحرى عقدتي مع مادة الرياضيات قد اشتهرت في المنطقة بكلها وقال مدير المركز التعليمي " لا بد من مساعدته " وكانت كلمته ضوء أخضر لمدرسي الرياضيات للدخول إلى قاعة الاختبارات وتقديم الغش لي في وضح النهار عيني عينك في زمن لم يكن الغش قد تفشى بهذه الصورة التي في أيامنا هذه في اليمن غير أني في يوم الإعدام قصدي في يوم امتحان الرياضيات وكنت قد حفظت كتاب الرياضيات بكل طلاسمه وأرقامه ولكن للأسف أصبت برهاب الرياضيات وتضخمت عقدتي وزاد الطين بلة أن المدرس المكلف بتقديم الغش لي تركني وذهب إلى خطيبته الطالبة التي في القاعة الأخرى لتقديم الغش لها يعني فاضت رومنسيته في ذلك اليوم التاريخي بالنسبة لي كان الوقت يمضي وأنا اتعذب أمام مخاوفي وكوابيس الاختبار الوزاري وكيف العمل ؟ !
أتذكر حينها أنني ارتشفت جرعة ماء وحاولت الهدوء وبدأت بكتابة الأسئلة ثم أجبت على ما تيسر منها وإذا بورقة تهبط علي كأنها الغيث السماوي التفت فوجدت أحد الزملاء وكان ذكي جدا في الرياضيات أجاب عن كل الأسئلة في 40 دقيقة وتفرغ بعدها لإنقاذي كنت قد كتبت أيام الدراسة له رسائل غرامية إلى خطيبته ما جعلها تغرق في حبه وترفض عريسا قدم من السعودية بسيارة آخر موديل وبذل أموال كبيرة وعمارة في مدينة إب مهرا لها كانت الورقة تحتوي نصف إجابات عن ثلثي الأسئلة ونجحت بتفوق في الرياضيات وودعتها إلى الأبد وما زلت حتى اللحظة أتساءل : لماذا لا يبسطون الرياضيات للطلاب ؟ !!
رويت قصتي لإقبال في ذلك المساء فردت علي : " أني يا أستاذ محمد معقدة من النحو "
ــ من النحو ؟ !!
أنت زيدتي بها يا اقبال !!
وسألتني بلهجة جادة :
ـ يا محمد أنت لو أنك امتلكت ثروة كبيرة فجأة ماذا ستعمل بها ؟
ــ ربما ستضحكين لو أخبرتك أن لي حلم أزلي وهو أن أمتطي صهوة طائر أسطوري يطير بي إلى حيث أريد وينزل حيث أرغب فأطوف العالم كأنني ابن بطوطة عصري وسندباد زماني فأرى العجائب والغرائب في رحلة طويلة أعود منها بعد سنوات طوال وأكتب عنها كما كتب ابن بطوطة رحلته الشهيرة " تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار " أو ما كتبه ابن جبير أو أنيس منصور وماركو باولو وغيرهم هواية السفر تسكنني منذ صغري أشعر دوما أنني كطير مقصوص الجناح أو كعصفور محبوس في قفص .
وقاطعتني إقبال :
ــ ستسافر لوحدك ؟
فأجبت على الفور :
ــ لا بد لي من رفيق في هذه الرحلة الكبيرة الرفيق قبل الطريق ولابد أن تكون رفيقة رحلة هي شريكة العمر وبعد أن نطوف العالم ونرى المعالم والآثار وكل غريب وعجيب سنعود إلى اليمن وسأبدأ في مشروعي الذي أحلم به وهو مؤسسة إنتاج برامج تلفزيونية وأفلام وثائقية وبمستوى رفيع .
ضحكت إقبال وقاطعتني قائلة :
ــ أستطيع القول بكل ثقة أن القات اليوم فاخر والدليل أنك بحت لي بكل هذه الأحلام والأماني وطرت بمخيلتك شرقا وغربا حتى طفت العالم على صهوة طائر أسطوري رائع لقد خرجت من البدروم بخيالك وعقبال الخروج بجسدك وروحك قريبا .
ثم مضت إقبال وسمعت خطواتها تبتعد عن الباب ، لقد مضت دون أن تسمع تعليقي على حديثها ، مضت وأضافت لي حيرة جديدة من أمري لقد سألتني عن مشاريعي إن هبطت علي ثروة مفاجئة ثم سألتني رفيقة السفر في رحلتي الطويلة حول العالم ثم قالت لي عقبال الخروج من البدروم و " قريبا " أيضا إذن هناك أمر يدبر بليل وحديثها هذا ليس عفويا وإذا جئت أربط بين هذه الأمور فسأخرج بتحليل صائب حول نواياها وحول ما تخططه لي .
يتبع ...