الحلقة الثانية
تحدثنا في الحلقة السابقة عن جهود شيخنا العلامة محمد بن اسماعيل العمراني رحمة الله تغشاه في علم الحديث النبوي وعن أسانيده التي يرويها إلى العلامة البخاري رضي الله عنه وعن جهوده في تدريس الحديث النبوي الشريف ورسالته التي كتبها في الرد على مقالة حول صحيح البخاري بعنوان: ( رد على من قال : ليس كل ما في البخاري صحيح بل فيه افتراء ومنكر ) وكذلك رسالته في تنقيح الأحاديث الموجودة في كتاب ( البحر الزخار ) .
وذكرنا أن للقاضي العمراني رسالة في أغلاط العلماء في أسماء الرواة ، كما له عدة مقالات تتبع فيها أخطاء الإمام الشوكاني من الناحية الحديثية .
وله كذلك رسالة عاب فيها على المؤلفين في الفقه لعدم اهتمامهم بصحة الأحاديث في كتبهم ، بل يذكرون الأحاديث على ما نقلوها عن غيرهم من غير تحقيق ولا تمحيص .
وللباحث المصري الدكتور عامر أبو سلامة (1) دراسة متميزة بعنوان: "فقه الحديث في منهج العلامة العمراني " (2) تحدث فيها عن القاضي العمراني وترجم له ثم تحدث عن جهوده العلمية والدعوية وعن عنايته بعلم الحديث, والاهتمام به وضرب أمثلة ونماذج ويرى أن منهج القاضي العمراني في فقه الحديث يتمثل بما يأتي :
1- الفقه المقارن: حيث يذكر آراء العلماء من المجتهدين في المسألة ... لأن هذا يظهر وجه الحق في المسألة, إذ أن آراء العلماء, تمثل الفهوم المتنوعة للنص, فمن الضروري معرفة آراء هؤلاء العلماء, لأنها تساعد كثيراً على الترجيح, ومن لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم, ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه . (3)
من هنا اهتم القاضي العلامة العمراني بحفظ آراء العلماء وله معرفة واسعة بخلاف الفقهاء حتى أنه إذا بدأ بسرد آراء الفقهاء في المسألة, يدهش الحاضرين ويحوز على إعجابهم .
2- الاستدلالي: لا يكتفي بسرد آراء الفقهاء, بل لابد من معرفة أدلة كل فريق من هؤلاء العلماء, وأدلة كل مذهب من المذاهب .
وفي هذا المجال (الاستدلالي) تبرز قدرة القاضي الحديثية, ومعرفته المتينة في هذا العلم الشريف .
3- الترجيحي: إذ بعد أن يذكر آراء العلماء, ويذكر أدلتهم على المسألة, ثم يناقشها, ويعمل قواعد الترجيح المعروفة عند الأصوليين, يختار القول الراجح في المسألة .
يقول الشيخ عبد الله قاسم ذيبان عن جهود القاضي العمراني في علم الحديث: ( ففي مجال معرفة أنواع الحديث, من حيث القبول والرد ، فهو البحر الذي لا تكدره الدلاء, فهذا حديث صحيح, ويبرهن على قوله بصحة الحديث, وكذا إذا حكم بضعفه, أو وضعه, أو أي حكم على الحديث والتأكيد على ضرورة المنهجية الحقة ، في التعامل مع الأحاديث. ومن حضر دروسه, أو قرأ الفتاوى التي كتبها, أو الأبحاث الصغيرة التي سطرها, يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك .
وفي هذا يقول: (لأن إسناد الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضروري ولازم, ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ولا سيما إذا كان الحديث سيعارض في أحاديث أخرى, مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومثل هذا الحديث الذي احتج به المحتج على تحريم أو كراهة الضم في الصلاة, فإنه سيعارض عدة ة متواترة , وهي مرفوعة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دالة على مشروعية الضم في الصلاة .
فلا بد لمن يريد الاحتجاج به أن يتثبت كثيراً, ولا يرويه إلا بعد معرفة سنده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -, وعلى فرض أن هذا الحديث موجود في كتب السنة, فوجوده لا يكفي حتى تعرف صلاحيته للاحتجاج, فكم من حديث مروي في كتب الحديث, معروف من رواه, ومن أخرجه, ولكنه عند أهل الحديث غير صالح للاحتجاج به من جهة سنده لا يكفي, بل لا بد أن يكون صالحاً للاحتجاج به من جهة المتن, أي من جهة دلالة الحديث على الحكم المطلوب، بأن يكون صريحاً في الدلالة . (4)
1 ـ القاضي العمراني يوضح : كيفية التعامل مع الأحاديث إذا تعارضت ؟
من الفوائد الذهبية التي تحدث عنها القاضي العمراني والتي تدل على تبحره في علم الحديث والتي أحببنا أن ننقلها هنا للقارئ الكريم هي رؤية القاضي العمراني لكيفية التعامل مع الأحاديث النبوية إذا تعارضت ؟
وكيفية الجمع بين الأحاديث ومتى يتوقف العالم عن الجمع بين الأحاديث ؟
يقول القاضي العمراني: ( الأحاديث إذا تعارضت فالعلماء يقولون: اللازم أنها إذا كانت صحيحة كلها أنه يُجمع بينها لأن الجمع ما بين الحديثين أفضل من الترجيح ومن النسخ، وذلك قد ألف العلماء فيه كتاب " تأويل مختلف الحديث " للعلامة ابن قتيبة ، فيجمع بين الحديثين المتعارضين، قال العلماء : إذا تعارض حديثان صحيحان فيجب على الإنسان أن يلاحظ بينهما وقد ألف الإمام الشافعي كتاب وسماه " مختلف الحديث " وقد ألف الإمام ابن قتيبة كتاب " تأويل مختلف الحديث " وهذا الكتاب موجود مطبوع يباع في المكتبات .
2 ـ القاضي العمراني يبين : كيفية الجمع بين الحديثين المتعارضين ؟
يقول القاضي العمراني مثلا : من نذر بماله كله يختلف الشخص الذي سينذر بماله كله لأن الأحاديث قد تعارضت فورد ما يدل على أنه لا مانع للإنسان أن يتنازل عن جميع أملاكه مثلما تنازل أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في الاستعداد لغزوة تبوك في أيام العسرة :
ـ ما تركت لأهلك ؟
فقال : ( يا رسول الله إني قد تطوعت بجميع ما أملك من المال ) وسلمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند تأسيس جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ما تركت لأهلك ؟ فقال : تركت لهم الله ورسوله، فهذا يدل على أنه لا مانع للإنسان أن ينذر بجميع أملاكه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أبا بكر على تنازله عن أملاكه، وأيضا ورد في الآية الكريمة : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (5) في حق الأنصاري الذي آثر الضيف على أهله وعلى أطفاله، هذا يدل على الجواز، ولكن ورد حديث كعب ابن مالك الذي تخلف عن غزوة تبوك، فكعب ابن مالك فحينما نزلت آيات التوبة وتاب الله عليهم من فوق سبع سموات قال : يا رسول الله أنا قد نذرت أنه إذا تاب الله علي أن أخرج وأتصدق بجميع مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الثلث " فلم يقره إلا في الثلث ولم يأذن له ، فأختلف العلماء ، كيف أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ولم يأذن لكعب ابن مالك ؟ !
والجواب : أنه إن كان هذا الإنسان الذي سيتنازل عن جميع أملاكه يستطيع أن يتاجر ويقترض ويرد الأموال فلا مانع من ذلك، ونحمل هذا على ما ورد في حديث أبي بكر لأنه ضي الله عنه كان له وجاهة يستطيع أن يحصل قروضا وأن يتاجر لأنه كان تاجراً منذ أن كان في مكة وتاجراً حينما كان في المدينة، هذا لا مانع له، وإذا كان الإنسان سيخرج جميع ماله ويسأل الناس ويضطر إلى سؤال المخلوق فلا يجوز ولهذا جمع العلماء بينهم، وقد ورد حديثان متعارضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة درهم ) وذلك أنه رجل لم يكن له إلا درهمين فقط فتصدق بدرهم وبقي له درهم وذاك تصدق بمائة في حين أنه يملك الآلاف، هذا دليل على أن صدقة الفقير أفضل وورد حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) يعني أن الصدقة من الغني أفضل من الصدقة من الفقير والأول يدل الدليل على أن الصدقة من الفقير أفضل جمع العلماء بينهم بأنه إذا هذا الفقير سيصبر ويحتسب لوجه الله ولا يسأل الناس فالصدقة منه أفضل من الغني وأما إذا كان الفقير سيتصدق ثم بعد ذلك سيسأل الناس فهذا حرام لا يجوز فالأفضل أن تكون صدقته بعد أن يغتني, ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى رجلا يسأل الناس فجمعوا له فجمعها ثم رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الصدقة فكان أول من تطوع هو فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى وجهه وقال : كيف نتصدق عليه وتكون أول من يتصدق ؟ فهذا دليل على أنه لا ينبغي للإنسان أن يقبل الصدقة من الفقير إذا قد كان سيتصدق ثم يسأل الناس أما إذا سيؤثر على نفسه كما ورد في آية : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وحديث أبي بكر فلا مانع جمعا بين الدليلين .
3 ـ القاضي العمراني يوضح كيفية : الجمع بين الأحاديث بالتاريخ والصلة بالقصة
ويضيف القاضي العمراني: ( إذا لم يتمكن الإنسان من الجمع ما بين الحديثين ينظر أياً الحديث المتقدم وأياً المتأخر ، فإذا كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا جعل المتأخر ناسخا للمتقدم، مثل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لمن كان يريد أن يعتمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه يغسل عن نفسه الطيب ثم يلبي) ، هذا الحديث صحيح وورد حديث صحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه وكان يرى أثر الطيب في مفرقه وهو محرم )، والحديثان صحيحان، الحديث الأول أخرجه مسلم والحديث الثاني أخرجه البخاري ومسلم فتعارضا، لكن رجعنا إلى التاريخ فوجدنا أن أحدهما متقدم وهو حديث: ( اغسل عنك الطيب ثم اعتمر ) وذلك في السنة التاسعة من الهجرة وحديث عائشة مؤرخ أنه في حجة الوداع وحجة الوداع في السنة العاشرة ولهذا رجحنا مذهب الجمهور القائلين بأنه لا مانع للإنسان أن يتطيب قبل أن يلبي، يتطيب ثم ينزل إلى السيارة فيقول : لبيك اللهم لبيك وأثر العطر لا زال على جبهته ، لا مانع من ذلك عملا بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها فهو أرجح من الحديث الأول لكونه في السنة العاشرة من الهجرة والأول في السنة التاسعة .
يتبع في الحلقة القادمة ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الدكتور عامر أبو سلامة : باحث وأكاديمي مصري له عشرات الدراسات العلمية المنشورة في مواقع مصرية وعربية ولم أعثر له على ترجمة وافية .
2 ـ مرجع سابق
3 ـ انظر : الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) ص(72 ) د/ يوسف القرضاوي – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية – 1992م .
4 ـ نيل الأماني في فتاوى القاضي العمراني ـ مرجع سابق
5 ـ سورة الحشر ـ الآية 9
* هذه المادة هي مقتطف من كتابي " القاضي العمراني رمز التجديد والوسطية في العصر الحديث " . الصادر عن مؤسسة اروقة للدراسات والترجمة والنشر أروقة بوك .