قصة قصيرة
قرية ظهرة النجد هادئة وادعة والشمس تميل نحو الغروب وتصبغ الأفق بلون ذهبي مثير للحزن ، الناس يمضغون القات في المجالس ويتحدثون عن حرب الخليج وصدام وعودة المغتربين والأطفال يلعبون بين الأزقة وفجأة اقتحم سكون القرية طقم عسكري بإحدى عشر جندي ورشاش ، توقف الطقم في مقدمة القرية وسألوا عن بيت علي قاسم ، فيما فتحت عشرات النوافذ وأطلت منها وجوه تراقب إلى أين سيصل العسكر .
أمام منزل علي قاسم توقف الطقم ونادى أحد العسكر بصوته الذماري :
ـ ياااا علي جاااااسم
سقط قلب علي قاسم من الرعب عندما سمعهم ينادون باسمه وأصفر لونه من الخوف ولكن تماسك ونزل إليهم وهو يتعثر في الدرج بعد أن شلته المفاجأة ..
نظر العسكري في الورقة ثم صاح به :
ـ أنت علي جاسم عبد السلام أحمد ؟
أجابه بهز رأسه فقد تيبس لسانه من الخوف ..
ـ أطلع معنا عليك أمر قبض قهري
عندما سمع علي قاسم ما قاله العسكري أنهار من الخوف ، لكنه قال تشجع وقال بصوت متحشرج :
ـ أكيد في غلط انا ما عملت شيء يستدعي التحقيق معي
لم يمهلوه ليتحدث كثيرا فقد قفز ثلاثة من العساكر من الطقم ورموه به في الطقم وصعدوا وغادر الطقم أزقة القرية مخلفا وراءه سحابة من الغبار ودهشة كبيرة لدى أهالي القرية فيما صرخت زوجة علي قاسم وبكي أطفاله بحرقة على أبيهم الذي أخذه العسكر .
في الطريق حاول علي قاسم أن يتذكر أن يكون قد أرتكب جرما ، أو تشاجر مع مواطن ، أو تحدث في السياسة فلم يتذكر شيئا ، حاول الاستفسار من العسكر لكنهم ظلوا في صمت مطبق ، غير أن أحدهم قال له :
ـ سمعنا أنك مطلوب في قضية قتل
حينها شعر بأنه يسقط في هاوية مظلمة كلها ثعابين وحيات ووحوش ولكنه حاول التماسك فمن المؤكد أن هناك خطأ في الأمر فهو لا يشك في براءته لكنه يخشى من الإهانات والبهذلة التي ستلحق به حتى اثبات براءته .
طوال الطريق ظل غارقا في قعر مخاوفه ، يدعو الله أن يدفع عنه البلاء ، عندما وصلوا إدارة أمن العدين ألقوا به في الحجز الممتلئ بمساجين نظروا إليه بفتور ولا مبالاة ، سلم عليهم لينزوي في ركن قصي شاردا يفكر فيما حل به وكأنه في كابوس طويل .!
في اليوم التالي استدعوه للتحقيق ، وعلى كرسي جلس ضابط نفث دخانه في الهواء فيما جلس بقربهم ضابط آخر يسجل ما يقوله المواطن ، سأل الضابط :
ـ لماذا قتلته ؟ !
أدهشه السؤال فأجاب :
ـ والله ما قتلت مخلوق
أعاد الضابط السؤال :
ـ أنت علي قاسم عبد السلام أحمد من أهالي قرية ظهرة النجد ؟
ـ نعم أنا علي قاسم من أهالي قرية ظهرة النجد
ـ هذا شخص الأمريكي جاء بلادنا تقوم تقتله ؟ !
ـ والله ما قتلته ولا أعرفه
ـ أنت مجنون ؟
ـ .............
ـ تريد توريط بلادنا بمشاكل مع أمريكا ؟ !
ـ ...............
ـ لمصلحة أي دولة تعمل ؟ !
وفي اليوم التالي وبعد تكرار نفس الأسئلة واصرار علي قاسم على الإنكار فتح الضابط درج مكتبه واخرج ورقة مختومة أرسلت بالفاكس وسأله :
ـ أنت علي قاسم عبد السلام أحمد من أهالي قرية ظهرة النجد ؟
ـ نعم
ـ هذه مذكرة رسمية جاءتنا من الخارجية بناء على برقية رسمية من الخرطوم بالسودان وفق شكوى مقدمة ضدك من الأستاذ علم الهدى ضوء الفانوس دينار .
وأضاف الضابط :
ـ حاولت أوضح لك القضية لتتذكر ما فعلته لأن القصة غريبة جدا أول مرة أحقق في قضية فيها قتيل أمريكي .!
ازدادت دهشة علي قاسم وحيرته وشعر بأنه يواجه قضية معقدة فيها ألغاز وطلاسم وفيها شكوى من الخرطوم ومقتول من أمريكا فيما هو لا يعرف السودان أو أمريكا ولم يقتل أي شخص فما الذي حدث ؟ !
وعاد الضابط يسأله :
ـ تنكر انك دمرت السياحة ؟
ـ والله ما شفت السياحة ولا لمستها
وهنا استشاط الضابط غضباً وركله في بطنه فتقيأ علي قاسم وشعر بأن أمعاءه تتمزق وبأن الدنيا قد أظلمت وتساقطت النجوم في السماء ودارت الأرض فتكوم في أرضية الغرفة وهو يبكي بصمت فيما غادر الضابط وهو يصرخ :
ـ قاتل مجرم شوهت بصورة اليمن في الخارج
بعد فشل الضابط في انتزاع اعتراف من علي قاسم بالقتل أعادوه إلى الحجز وهو يئن ويتألم ويكاد يجن من التهمة الغريبة الموجهة إليه .
ومضت أسابيع وأشهر من التحقيق مع علي قاسم تخللها الكثير من العنف والتعذيب وهو يواصل الإنكار ..
بعد أشهر عاد الأستاذ علم الهدى المدرس السوداني الذي يعمل بالتدريس بقرية مجاورة لقرية ظهرة النجد وسأل عن علي قاسم فأخبروه أنه يقبع في إدارة أمن العدين لاتهامه بقتل شخص أمريكي وحينها أنهار علم الهدى ضاحكا وفي قلبه تدفق شلال من السعادة والشماتة بعلي قاسم الذي نال جزاءه على ما فعل وزيادة .
في المساء فكر علم الهدى كثيرا بما حل بعلي قاسم ورأى أنه لابد من الذهاب لإخراجه فليس من المعقول أن يظل في السجن بسبب كلب .
توجه في اليوم التالي إلى إدارة أمن العدين وأخبرهم بما حدث :
بعد رحيلي إلى السودان في الإجازة الصيفية قررت ترك كلبي " بوش " في المدرسة على أن يرعاه بعض الطلاب ولكنه كان حزينا بسبب رحيلنا عنه وتركه وحيدا ، عاف الطعام والشراب وتوحش وأصابه السعار فهجم على خروف لعلي قاسم وأفترسها فما كان منه إلا أن أطلق عليه النار وقتله ..
بعد أيام تلقيت اتصالا من أحد الطلاب يفيد بقيام علي قاسم بقتل الكلب بوش ، كنت أراه مثل ولدي معتصم وحزنت عليه لدرجة أنني لم أنم تلك الليلة وفي اليوم الثاني ذهبت إلى الخارجية وقدمت شكوى ضده فأرسلوها للخارجية بصنعاء ومن كتب البرقية سقطت منه كلمة الكلب وبقي لفظ الحارس بوش فظنوا انه أمريكي وأرسلوا إليكم البرقية للقبض عليه وهذا ما حدث والآن اتنازل عن حقي وأريد الإفراج عن علي قاسم .
بعد أشهر من التحقيق والتعذيب والتوبيخ تحول فيها علي قاسم في السجن إلى عجوز محطم وكومة من العظام غادر إلى القرية برفقة الأستاذ علم الهدى وهو يكاد يطير فرحا بعد ان تمت تبرئته من قتل الأمريكان وتدمير السياحة وتشويه صورة اليمن .!