على مدى نصف قرن ظل الفيلسوف الشهير الدكتور عبد الرحمن بدوي يعد فيلسوف الوجودية الأشهر في العالم العربي ، أصدر عشرات الكتب وروج لمقولات وأفكار المستشرقين في العالم العربي ولكنه قبيل وفاته بسنوات قليلة انقلب على أفكاره السابقة كلها وهاجم المستشرقين هجوما شرسا وأتهمهم بالجهل والسقوط والحقد والتفاهة والتعصب الأعمى والهذيان المرضى والاعتلال النفسي ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ألف سلسلة رائعة من الكتب بدأها بكتابه الرائع " دفاع عن القرآن ضد منتقديه " ، الكتاب الذي صدر في باريس وترجمه إلى اللغة العربي الأستاذ بجامعة الأزهر الدكتور كمال جاد الله شكل صدمة لمتابعي الدكتور عبد الرحمن بدوي وطلابه وهم كثر ، كما شكل مفاجأة سارة للإسلاميين وعلماء الأزهر وتيار الأصالة الذين رحبوا بالكتاب وعودة مؤلفه إلى جادة الصواب .
أما التيار العلماني فقد هاجم الفيلسوف الأشهر الدكتور عبد الرحمن بدوي واتهموه بالرجعية والانقلاب على أفكاره الحداثية ومقولاته التجديدية وكتبه السابقة وجهوده السابقة على مدى نصف قرن من التنظير للفلسفة الوجودية والترويج لمقولات المستشرقين .
قام الدكتور بدوي رحمه الله في كتابه " الدفاع عن القرآن ضد منتقديه " بتتبع شبهات واتهامات المستشرقين للقرآن منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين ، يرى بدوي بأنه منذ منتصف القرن التاسع عشر نشطت بعثات الاستشراق للعالم العربي متزامنة مع التوجهات الاستعمارية للدول الغربية ولذا كثر الطعن في القرآن واثارة الشبهات حوله من قبل الكثير من المستشرقين .
يرى بأن أسباب اثارة المستشرقين لكل تلك الشبهات حول القرآن الكريم ناتج عن جهلهم الكبير باللغة العربية ودلالات الألفاظ والسياق الذي تستخدم فيه المفردات ودليل ذلك من الشعر والنثر الصحيح وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية وسيطرة الحقد على الإسلام في قلوبهم والذي ورثوه منذ طفولتهم فطغى على أذهانهم وتسبب لهم بعمى البصيرة فحادوا عن الصواب وتخلوا عن الموضوعية ونقلوا الكثير من الأكاذيب والشبهات حول القرآن الكريم فكان المستشرق ينقل عن المستشرق الآخر حتى أقنعوا أنفسهم بأن هذه الأكاذيب التي تناقلوها والشبهات التي تبادلوها هي مسلمات لا يأتيها الباطل من يديها ولا من خلفها فصدرت منهم اتهامات سخيفة وأحكام سريعة وتعميمات خاطئة تمت بنفس صليبي متعصب ، فجنوا على الحقيقة وألبسوا تلك الأكاذيب والشبهات ثوب الحقيقة ، فخدعوا جمهورهم وفشلوا في تشويه القرآن الذي تكفل الله بحفظه وقيض له الكثير من العلماء من المسلمين ومن غيرهم للدفاع عنه والرد على هؤلاء المستشرقين الكاذبين .
من الشبهات التي روجها الكثير من المستشرقين ان الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره " مؤلفا " للقرآن قد أقتبس أغلب القصص وعددا كبيرا من الصور البيانية وكذلك الحكم والأمثال من التوراة والانجيل ، وهنا يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي : " ولكي نفترض صحة هذا الزعم فلابد ان محمدا صلى الله عليه وسلم كان يعرف العبرانية والسريانية واليونانية ولابد أ لديه مكتبة عظيمة اشتملت على كل الآدب التلمودي والأناجيل المسيحية ومختلف كتب الصلوات وقرارات المجامع الكنسية ، وكذلك بعض الآباء اليونانيين وكتب مختلف كنائس الملل والنحل المسيحية " .
ويتساءل الدكتور بدوي : " هل يمكن ان يعقل مثل هذا الكلام الشاذ لهؤلاء الكتاب وهو كلام لا برهان عليه ؟ !
ان حياة محمدا صلى الله عليه وسلم قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع ، على الأقل في مظاهرها الخارجية ، ولا أحدا قديما او حديثا يمكن أن يؤكد ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف غير العربية ، إذن كيف يمكن ان يستفيد من هذه المصادر كما يزعمون ؟ !
لقد تتبع الدكتور بدوي شبهات واكاذيب المستشرقين حول القرآن وفندها وردها بأسلوب علمي رصين وحرص على ان يصدر الكتاب باللغة الفرنسية كونه موجه إلى الغرب بشكل أساسي ، لقد الدكتور بدوي عقلية فذة أستوعب ثقافة الغرب بمختلف شعوبه وتوجهاته حيث كان يجيد ثمان لغات إضافة إلى العربية ، كما كان يحظى بشهرة واسعة في الغرب .
ويرى الكاتب محمد سيد بركة بأن كتاب " دفاع عن القرآن ضد منتقديه " يحظى بهذه الأهمية لعدة أسباب ـ سنحاول هنا إجمالها تعميما للفائدة ـ يقول في عرضه للكتاب في مجلة " العربي " الكويتية العدد 496 والصادر في مارس آذار عام 2000 م أن الكتاب يعد علامة مضيئة بين مؤلفات الدكتور بدوي والتي تجاوزت المائة وخمسين للأسباب الآتية :
1 ـ أنه يصدر عن عالم متبحر من الثقافة الغربية ، ولكنه متبحر بنظرة نقدية لا بنظرة " دوجماطيقية " اتباعية عمياء .
2 ـ أن مؤلفه الدكتور عبد الرحمن بدوي لا يمكن اتهامه بالجهل ولا بالثقافة الأوربية ولا بالتعصب فهو أستاذ للفلسفة وللمنطق ويستطيع ن يزن الأمور بميزان الحق والصواب .
3 ـ أن كثيرا من المطاعن التي أوردها الكتاب وإن كانت معروفة إلا أن رد المؤلف عليها كان بموضوعية استخدم في ذلك كما قال هو بنفسه ، علم فقه اللغة ، ذلك العلم ذو القواعد الصارمة التي لا يتطرق الشك إلى نتائجها .
4 ـ أنه كتاب صدر باللغة الفرنسية في باريس ، تلك المدينة التي يمكن من خلالها قياس الحركة الثقافية الأوربية بصفة عامة ، ولذلك فإن مثل هذا الكتاب يعني الكثير بالنسبة للمفكرين الأوربيين الأحرار .