الحلقة الثانية
تحدثنا في الحلقة السابقة عن " ظاهرة الملوك العلماء في الدولة الرسولية " وكيف أن من أبرز أسباب رقي وتطور الدولة الرسولية وتحقيق كل تلك الانجازات الحضارية والمعرفية أن ملوك الدولة الرسولية كانوا من العلماء إضافة إلى أن مستشاريهم ايضا كانوا من العلماء أما حبهم وتقديرهم للعلم وللعلماء وحفاوتهم بهم فهذا مشهور مذكور ويعرفه الجميع .
ثم أوردنا ما ذكره المؤرخ اسماعيل الأكوع رحمة الله تغشاه في هذا المجال وكذلك ما ذكره المؤرخ الراحل الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع الذي نفى عن ملوك الدولة الرسولية التهمة التي أوردها البعض من المؤرخين الذين اتهموا ملوك الدولة الرسولية باستغلال بعض العلماء لتأليف الكتب باسمهم نظير المال والمكافآت الجزيلة .
كما ذكرنا بعض ما كتبه بعض الباحثين أمثال الدكتور محمد علي العروسي والدكتور بشير زندال في حديثهم عن ظاهرة الملوك العلماء في الدولة الرسولية وفي هذه الحلقة سنتحدث عن بعض دلالات هذه الظاهرة وبعض جوانب تميز وفرادة الدولة الرسولية في الثراء الحضاري والمعرفي .
من الدلالات الهامة أن ظاهرة الملوك العلماء في الدولة الرسولية تؤكد قدرة العلماء على تولي الشأن العام وإدارة الدولة إذا امتلكوا خبرة سياسية وحنكة إدارية ومعرفة بالعلاقات الدولية والسياسة الشرعية فقد كان ملوك الدولة الرسولية علماء وتبحروا في جوانب متعددة من العلم مثل الفلك والطب والأدب وألفوا الكتب ودرسوا العلم على أيدي العلماء وقرأوا كثيرا ومع هذا اداروا الدولة أحسن إدارة وارتقوا بها في شتى المجالات حتى توسعت رقعتها وشملت مناطق كبيرة وعلا صيتها في العالم حتى استغاث بهم المسلمين في الصين حين تعرضوا لبعض المضايقات من ملك الصين وأرسلوا وفدا منهم إلى تعز فقاموا بنجدتهم لما لهم من علاقات تجارية متميزة مع الصين ولتحكمهم بطرق الملاحة الدولية في البحرين الأحمر والعربي ، هذا إضافة إلى ان كون مستشاريهم من العلماء ما يعني ضرورة وجود العلماء حول الملوك والزعماء بقصد نصحهم وحثهم على الإصلاح وحسن سياسة الرعية وتقديم الشورة اللازمة والنصائح الواجبة وعدم تركهم للبطانة الفاسدة التي ان أفسدتهم فسدت الكثير من الأحوال في الدولة .
والبعض قد يقول طالما ان ملوك الدولة الرسولية كانوا من العلماء وكان لديهم كل ذلك الاهتمام بالعلم والعلماء والنشاط الثقافي والمعرفي وكان في خزائنهم آلاف الكتب فمن المؤكد بأن هذا سيؤدي إلى تقصيرهم في إدارة الدولة ، إضافة إلى ان انشغالهم بالتحصيل العلمي والقراءة والتأليف ستجعلهم يقصرون في رعاية شؤون الدولة ما يؤدي إلى إهمال الكثير من الجوانب والواجبات وهذا غير صحيح والدليل الأكبر ان ما تحقق في عهد الدولة الرسولية من انجازات حضارية في كافة المجالات فلو أثر ذلك النشاط العلمي والفكري سلبا على واجبهم في إدارة الدولة لما تحققت كل تلك الإنجازات في شتى المجالات ، بل لقد أدى تميز ملوك الدولة الرسولية بكونهم من العلماء في مختلف المجالات ونبوغهم فيها إلى نهضة شاملة في مختلف المجالات حيث أنعكس علمهم بشكل إيجابي في سائر مجالات الدولة وعن هذا الأمر يقول الدكتور محمد علي العروسي : ( كان الاشتغال بالعلم والمعرفة في العصر الرسولي أهم الخيارات وأفضلها على الإطلاق، وكان ملوك الدولة الرسولية علماء، وبفضل العلم وهؤلاء العلماء الملوك صارت اليمن واحدة من أقوى دول الشرق في العصور الوسطى، بل إن اليمن تميزت، عن غيرها من شعوب العالم الإسلامي في تلك الفترة، بأنها صنعت نموذجا علمياً وثقافيا عربياً إسلاميا عظيما، قام على أساس وجود توازن سياسي بل وشراكة سياسية بين أولئك العلماء الملوك وعامة الشعب، وجعلوا من طلب العلم ونشره سلوكا وثقافة شكلت جزءا هاما من حياة الحكام والمحكومين. من المؤكد بأن اشتغال هؤلاء العلماء الملوك بالعلم لم يؤثر على أدائهم في الحكم بل كان من أهم عوامل نجاحهم في حكم البلاد وحمايتها وتطويرها وبنائها ؛ كانوا قريبين من الرعية يعالجون قضاياهم ويخففون معاناتهم، وإن ضاقت أحوالهم بسبب الجفاف أو القحط أو التهم الجراد محاصيلهم أمدهم ملوكهم بالمساعدات المادية والعينية التي تعينهم وأعفوهم من الرسوم التي كانوا يدفعونها للدولة، وإن شكا أحد الرعية إليهم والياً أو عاملاً من عمالهم عزلوه .
ولم يقف هذا النشاط العلمي على ملوك وسلاطين الدولة الرسولية بل لقد صار سمة من سمات الدولة الرسولية حيث حذا حذوهم الأمراء والوزراء الذين حرصوا على تجديد وترميم وإصلاح هذه المنشآت التعليمية. حذا بعض الأمراء من بني رسول حذو ملوكهم في بناء وعمارة مدارس العلوم الإسلامية فشيدوا عشرات المدارس .
وتجاوز هذا النشاط الرجال إلى النساء فقامت بعض أميرات الدولة الرسولية ببناء مدارس علمية والإشراف عليها وكان لبعضهن نشاط علمي وعملن على نشر العلم والمعارف من خلال بناء بعض المدارس والجوامع والخانقات والأربطة ومن أبرز أولئك الأميرات الدار الشمسي والدار النجمي وغيرهن .
وقد ألف الكثير من الباحثين الكثير من الكتب والدراسات والرسائل الجامعية عن جهود المرأة اليمنية خلال الدولة الرسولية ومشاركاتهن العلمية .
فعلى سبيل المثال أعد الباحثان الدكتور مصطفى غشيم والدكتور محمد الكامل أساتذة التاريخ في جامعة صنعاء في دراسة مشتركة عن (اسهامات المرأة في الأعمال الخيرية في اليمن خلال حكم الدولة الرسولية) : وقد أكدت هذه الدراسة على أن المدارس التي أنشأتها نساء القصر الرسولي تفوق من حيث العدد مقارنة بالمدارس التي شيدها ملوك الدولة ) كما أورد الباحثان أسماء الكثير من الأميرات والوصيفات اللواتي شاركن بالنهضة العلمية والأعمال الخيرية المختلفة خلال عهد الدولة الرسولية .
فمثلا من أشهر من قمن بهذا الدور الأميرة الدار شمسي ابنة السلطان المنصور الرسولي ( ت 695 هجرية الموافق 1295م ) فقد أنشأت مدرستين الأولى بذي عُدينة من مدينة تعز عرفت بالمدرسة الشمسية أوقفت عليها وقفا جيدا والمدرسة الثانية في مدينة زبيد .
ومن المدارس أيضا المدرسة الفاتنية بزبيد ، نسبة إلى فاتن ماء السماء بنت المؤيد الرسولي (ت 768 هـ)، ويلحقها سبيل ماء يعرف بالسبيل الفاتني .
وقد رتبت فيها إماماً ومؤذنا ونزاحا للماء ومصلى وأيتاماً يتعلمون القرآن وأوقفت على الجميع ما يقوم بكفايتهم .
وما زالت أوقاف المدرسة الفاتنية قائمة حتى اليوم .
كما بنت مسجد فاتن (المعروف بمسجد جيلان) لأن بعض الصوفية التابعين للطريقة الجيلانية اتخذوه مسجدا لهم. وتجاوز خيرها إلى الفقراء والمساكين فأوقفت عليهم وقفاً جيداً يعرف “بالبر المؤيدي ”.
كما أسست اختيار الدين ياقوت زوجة الملك الظاهر يحيى بن الملك الأشرف الرسولي ( 850 هـ). المدرسة الياقوتية في حيس .
أما نبيلة ابنة السلطان الملك المظفر (ت 718 هـ) فقد أنشأت المدرسة الأشرفية في زبيد ، ووقفت عليها أوقافاً تقوم بكفاية القائمين بها .
كما ابتنت مدرسة في ظفار الحبوضي ، ومدرسة في تعز ، ومسجداً في جبل صبر، ووقفت على الجميع أوقافاً تكفيها .
وقد درّس فيها ، العلامة أبو الحسن علي بن ابي بكر الناشري (ت 844)، صاحب كتاب روضة الناظر، في أخبار الملك الناصر والثمر اليانع وتحفة النافع .
وهذه مجرد نماذج للمدارس التي أسستها أميرات الدولة الرسولية وتجاوز الأمر الأميرات إلى وصيفاتهن من الجواري وإلى نساء الأمراء والتجار وغيرهن من النساء اللواتي لهن القدرة والإمكانيات في الإسهام بتلك النهضة العلمية والإشراق الحضاري الذي تميزت به الدولة الرسولية ..
ويقول الدكتور محمد علي العروسي : ( شاركت الأميرات الرسوليات في الحياة السياسية والدينية والعلمية والثقافية، وكان لها دور بارز في نشر العلم والثقافة في اليمن في العصر الرسولي، حيث قامت الكثير من الأميرات بإنشاء العشرات من مدارس العلوم الإسلامية والمساجد، وقد بلغ عدد المدارس التي أنشأتها الأميرات الرسوليات أربعة وثلاثون مدرسة ؛ وأوقفوا على تلك المدارس أوقافاً جليلة مكنت غالبية هذه المدارس من الاستمرار في أداء وظيفتها حتى يومنا هذا، كما ساهم الكثير من العلماء والقضاة والفقهاء والتجار في العصر الرسولي في بناء الكثير من المدارس وربط العلم. وبشكل عام فقد بنيت مدارس العلوم الإسلامية في العصر الرسولي في عدد من المدن والقرى اليمنية، وعلى وجه الخصوص في بعض قرى ومدن تهامة في محافظة الحديدة وفي محافظات تعز وإب وعدن ؛ ويبلغ عدد المدارس التي أنشئت في مدينة زبيد أكثر من خمسين مدرسة، وبُنيت في مدينة تعز وضواحيها حوالي ثلاثين مدرسة، وبنيت في محافظة إب أكثر من أربعين مدرسة منها عشر مدارس في مدينة إب وتسع مدارس في مدينة ذي جبلة، بالإضافة إلى عدد كبير من مدارس العلوم الإسلامية التي بنيت في العصر الرسولي في أماكن مختلفة من اليمن، وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة ).
والحقيقة أن حرص الملوك والأميرات والأمراء الرسوليين على نشر العلم وبناء المنشآت التعليمية والاهتمام بالعلماء والمدرسين وطلبة العلم والإنفاق عليهم بسخاء يعد واحدا من أبرز مظاهر مشاركتهم الرائدة في تطوير الحياة العلمية والثقافية في اليمن في عهدهم .
يتبع في الحلقة القادمة ...