مع دخول الحرب عامها الثامن في اليمن، تترسخ معادلة الردع الاستراتيجي بشكل واضح وجلي، وتتوالى ارتداداتها الخطيرة على العمق السعودي إلى الحد الذي باتت معها تؤثر بعمق على قدرة السعودية على الاستمرار في إدارة المعركة كبلد قوي ويتحكم بالحرب وأطرافها، كما أرادت هي أن تكرس نفسها مستفيدة من التغطية الدولية المدفوعة الأجر، ليتحول الأمر بعد الهجمات الأخيرة إلى اتهامات مبطنة للولايات المتحدة بالدخول على خط دعم حرب الحوثيين على المملكة .
هجمات مميتة تعرضت لها منشآت أرامكو النفطية مجدداً في جدة، وتعرضت لها منشآت توليد الطاقة في صامتة، ضمن بنك أهداف شمل الرياض ومناطق أخرى عديدة جنوب المملكة؛ جميعها استهدفت بصواريخ مجنحة (كروز) وطائرات مسيرة إيرانية الصنع، وتسببت في إشعال الحرائق وتصاعد النيران في سماء جدة المنشغلة ببرامج ترفيهية مفتوحة؛ ترافقت مع تعليمات صارمة بتقنين بث الصلوات ومستويات رفع الآذان في مساجد المملكة .
لقد حدت تلك الهجمات كثيراً من تأثير التغريدات المتفائلة التي تؤكد أن جدة بخير، وحلبة الفورمولا الزاهية ستستمر في احتضان المسابقات الدولية، وأن مهرجان الرياض مستمر. وزادت في مقابلها التغريدات التحريضية التي تستهدف اليمنيين المقيمين في المملكة، وخصوصاً في أرض الحرمين التي تشرف عليها الحكومة السعودية، وتتصرف معها كما لو كانت إقطاعية حصرية أو مشروعا استثماريا خاصا للأسف الشديد .
معلقون سعوديون بارزون بدأوا يؤولون الهجمات الحوثية، باعتبارها مؤامرة أمريكية تستهدف الضغط على المملكة من أجل زيادة الإنتاج النفطي، فيما سارعت السفيرة السعودية في واشنطن إلى بيان خطر الهجمات على إمدادات الطاقة، في محاولة يائسة لإعادة توجيه الاهتمام الأمريكي بالسعودية؛ كحليف وأكبر منتج للطاقة .
لم يعد الأمر يتوقف عند حد اتهام إيران بدعم الحوثيين، بل تمادت لتصل حد اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بالإيعاز للحوثيين بتنفيذ هذه الهجمات، وهي اتهامات لا تبدو في تقديري غريبة، أو جزافية، أو مبالغا فيها، فالأمور عادت إلى نصابها بالنسبة لعلاقة واشنطن بالحوثيين .
الحوثيون هم منتج أمريكي بامتياز، وهم أحد الأدوات التي استخدمت في إعادة هندسة المشهد الطائفي في المنطقة وإعادة إطلاق موجة الصراعات المؤسسة على نوازع ومشاريع وأحقاد طائفية .
وفيما يخص الحوثيين، فإن دخولهم صنعاء قد تم بإيعاز أمريكي، لكن ما كان له أن يتم لولا الرياض وأبو ظبي، والجرأة التي أظهرتها القيادة السعودية في عهد ملكها الراحل عبد الله بن عبد العزيز في تغيير الموقف السياسي والاستراتيجي لها في اليمن .
فالملك عبد الله حينها غيّر مقاربته للأزمة في اليمن بشكل جذري ودراماتيكي ومفاجئ، عندما قررت حكومته إنهاء الدور العسكري للمقاتلين السلفيين في صعدة، ومد يدها للحوثيين لكي ينهوا ربيع اليمن ويقوّضوا نفوذ "الإخوان المسلمين"، وهي تسمية عممت لتشمل الطيف السياسي الواسع الذي دعم ثورة الحادي عشر من شباط / فبراير 2011 في اليمن .
وبعد هذه السنوات السبع العجاف من الحرب العبثية، يبدو أن أخطر ما تنتظره السعودية جراء استمرار حربها المفتوحة في اليمن، هو أن تتعزز معادلة الردع التي أقامها الحوثيون مع السعودية، بدعم سخي ومغامر وطائفي من قبل إيران، بدعم أمريكي خفي .
فهذا الدعم سوف يشجع إيران على التمادي في التورط بالحرب بجرأة أكبر مما تمارسه اليوم، وهو أمر غير مستبعد في ظل مؤشرات عديدة من أهمها الجفاء المتواصل بين الإدارة الأمريكية الحالية وبين ولي العهد السعودي، وعدم اهتمامها بتعيين سفير جديد لها في المملكة، وهو أمر لم يحدث سوى مرتين الأولى في آخر عهد إدارة أوباما والمرة الثانية في ظل إدارة بايدن. الأمر ينطبق أيضاً على أبو ظبي .
أما المؤشر الثاني، فيتمثل في حرص واشنطن على إعادة ترميم صفقة الملك النووي الإيراني بذات المزايا الاستراتيجية التي تعزز مكانة ودور إيران في المنطقة والعالم .
أما المؤشر الثالث فيتمثل في امتناع السعودية عن تبني موقف مناهض لحرب روسيا في أوكرانيا، والأخطر من ذلك كله تلميحها بإمكانية تصدير جزء من نفطها إلى الصين بـعملة اليوان، بما يمثله ذلك من تهديد مباشر لمكان الدولار الذي اكتسب أهميته العالمية بصورة أكبر، منذ أن اعتُمد في تسعير وبيع النفط قبل عقود .
تلقت المملكة بالهجمات الأخيرة للحوثيين رسائل شديدة القسوة، من المؤكد أنها ستفسد مؤتمر الرياض-2 الذي دعت إليه باسم مجلس التعاون لدول الخليج العربي، بأجندة فضفاضة، وتنطوي على القدر نفسه من المقاربات العبثية المتواصلة منذ بدء حرب التحالف في اليمن .
لكن بوسع السعودية أن تحول هذا المؤتمر إلى محطة مفصلية مهمة في تاريخ الصراع الدائر في اليمن، والذي تلعب فيه الرياض دوراً قوياً ومؤثراً. وهذا لن يتحقق بالتأكيد إلا عبر تغيير الأجندة بما يسمح ببناء اصطفاف يمني جديد، يعزز ويقوي الشرعية ويعيد الاعتبار لمعسكرها، ويعيد توجيه بوصلة التشكيلات المسلحة التي استثمر فيها التحالف بسخاء، بما يخدم معركة ينبغي أن تكون قوية وحاسمة وتنتهي بطرد الحوثيين من صنعاء .
ستكتسب المعركة مصداقيتها ومشروعيتها وزخمها بتحقيق أهدافها الأخلاقية على الساحة اليمنية، وبالنتائج اللاحقة لها، والمتمثلة في إعادة إطلاق عملية سياسية حقيقية تترافق مع إعادة إعمار ما دمرته الحرب وإدماج اليمن في منظومة تعاون إقليمية جديدة، يصبح فيها اليمن لاعباً استراتيجياً وسوقا كبيرة، ومصدراً مهما لإعادة التوازن الديمغرافي الضامن لاستقرار المنطقة في مواجهة الأخطار المحدقة بها .
نقلاً عن عربي 21