هل استطاعت عدن، في أول اختبار لها منذ أن قام الرئيس هادي بتفويض صلاحياته وسلطاته الدستورية يوم ٧ ابريل ٢٠٢٢ إلى مجلس القيادة الرئاسي برئاسة الدكتور رشاد العليمي، وعودة الرئاسة والحكومة إليه ، أن تهذب السلوك السياسي للقوى السياسية ، وأن تمتص كل محاولة لاستدعاء صراعات الماضي بين هذه القوى التي توافقت على العمل المشترك لمواجهة التحديات الوجودية التي يطلقها المشروع الحوثي- الايراني في وجه اليمن والمنطقة عموماً ؟
يقول واقع الحال إن الكتلة الضخمة من اليمنيين التي تتصدى لهذا المشروع الخطير ، والتي تضم تقريباً كل اليمن "السياسي" ، قد ورثت صراعات القوى والنخب والأنظمة السياسية التي تولت حكم اليمن شماله ، وجنوبه ، وموحداً منذ بداية ستينات القرن الماضي وحتى اليوم .. وكان من نتيجة هذا الميراث أن تبددت أجزاء كبيرة من طاقاتها وقوتها في مواجهات داخلية وبينية مكنت الحوثي وأعوانه من تكريس خيارهم العسكري لفرض مشروعهم الانقلابي السلالي ورفض دعوات السلام . ويمكن القول بكل ثقة أنه لو لم يبتل اليمن بهذا الميراث الكئيب لما تجرأ الحوثي ، ومن ورائه إيران ، على الانقلاب والتمسك بالخيار العسكري لتدمير هذا البلد على هذا النحو الذي وضعوا فيه اليمنيين أمام خيارين : نحكمكم أو ندمركم .
هذه الكتلة الضخمة بكل موروثها الصراعي اقتنعت مؤخراً أنه لا خيار أمامها إزاء هذا الخطر الوجودي سوى أن تتفاهم ، وتعيد تعبئة قواها وفقاً لرؤية شاملة تجاوزت محطات الخلافات التي تعين حلها وفقاً لمبادئ وقواعد كجزء من بنية التوافق الوطني ، وهو ما جعل الاتفاق الذي ينفذ من عدن نقطة انطلاق لاستراتيجية شاملة يستعاد بموجبها الوطن حراً ، وسعيداً ، ومؤهلاً لترتيب أوراقه المبعثرة .
كانت " عدن" حتى الآن في مستوى التحدي .. استطاعت برمزيتها ، وبانسجام تام مع دورها التاريخي أن تصبح الساحة التي يتحرك فيها الفعل السياسي التوافقي بقدر كبير من الارادة لبناء موقف إيجابي من قضايا الخلاف بصورة تنم عن وعي كبير بالمخاطر التي تنتصب أمام الجميع ، والتصدي ، من ثم، للقضايا الكبرى التي يتوقف على حلها حل القضايا الاخرى بتوفير الشروط الضرورية لحرية الناس في الاختيار .
في هذا الإطار، لا متناهي المسؤولية، تمكنت عدن من الاحتفاظ بمكانتها التاريخية رغم الاهمال الذي تعرضت، ورغم الجراح التي لحقت بها، ورغم المؤامرات التي هدفت إلى تهميشها .
تمثل أول اختبار لتمكنها من أداء هذا الدور في توسيع مساحة التفاهم الوطني بين الشركاء السياسيين بتغليب المشتركات، وتقاسم الهم الأكبر مع الاحتفاظ بقدر من الثقة في أن المستقبل سيكون خال من الكمائن عندما يحين موعد الاستحقاقات السياسية التي سيقول الناس، والناس وحدهم، الكلمة بشأنها .
اليوم نستطيع القول إن عدن اشتقت مساراً جديداً للتفاهم، والعمل المشترك، لمواجهة التحديات الوجودية الكبرى.. مساراً، إلى جانب ذلك، يحافظ على حق الناس في تقرير خياراتهم السياسية بدون تحفظ، وهو ما يجسده في الوقت الحاضر مجلس القيادة الرئاسي باعتباره خيار الضرورة الوطني الذي سيتوقف عليه عبور المضيق ببلد أنهكته الحرب، وتكاد تدمر مستقبله على أكثر من صعيد .
عندي اعتقاد يصل درجة اليقين أن مجلس القيادة الرئاسي سيظل متمسكاً بمسئوليته الوطنية التاريخية في إخراج اليمن من مأزق الحرب عبر مواجهة حاسمة مع المشروع الانقلابي الحوثي ، وتخطي الصعوبات البينية المرحّلة من الماضي بكل ما تعج به من موروث ، والتعاطي بفهم وبحكمة مع السموم التي يحاول البعض تمريرها من خلال الاخبار أو التسريبات المفبركة أو التحليلات السياسية أو استحضار محطات الصرع أو افتعال المعارك الجانبية ببعدها المراوغ وغير المسئول ، والتي تشكل بمجملها هجيناً من مزاج سياسي وثقافي مشوه كانعكاس لحالة التشوه في الحياة العامة ، وحالة اليأس التي يجري استزراعها على نحو شامل .
إن كل هذا يتطلب :
١ / تحويل عدن سياسياً واقتصادياً وأمنياً وشعبياً، قولاً وعملاً، إلى قاعدة صلبة لمشروع التفاهم الوطني، الذي سيبقى عرضة لمخاطر كبيرة إذا لم يؤسس على مثل هذه القاعدة .
٢ / الاعتراف من الجميع بأنهم أمام مسئولية تاريخية لا تحتمل الفشل، وعليها يتوقف مستقبل هذا البلد .
٣ / تقبل حقيقة ان هناك موروث من الخلافات والصراعات يتوجب التعامل معها بحكمة وارادة فولاذية تجنب الجميع الانزلاق نحو ما عرف في التاريخ السياسي اليمني بكسر ارادة الآخر والذي دائماً ما كان ينتهي إلى هزيمة الجميع .
٤ / التمسك بتحقيق الهدف الذي قبلوا تحمل هذه المسئولية من أجله، والذي يتطلب مواصلة الحوار مع كل من بقي خارج معادلة التوافق من القوى المناهضة للمشروع الحوثي- الايراني، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية والاجتماعية، والتحلي بالصبر إزاء الممارسات الخاطئة التي تعد بطبيعتها امتداد لموروث الصراع والتعبئة لكسر الآخر، وتحتاج الى جهد مشترك وكبير، وارادة سياسية حقيقية عبر اصلاحات تجسد حقيقة التوافق الذي لا يغيب معه حق الناس في تقرير خياراتهم السياسية .
٥ / التمسك بقيمة العمل مع الناس والاقتراب منهم والحصول على ثقتهم وحل مشاكلهم التي تراكمت ومنع الانهيارات الاجتماعية .
٦ / إعادة بناء العلاقة مع تحالف دعم الشرعية على النحو الذي يجسد شراكة فعلية في مواجهة خطورة المشروع الايراني على المنطقة والدور الموكل للحوثيين في هذا المشروع باستقطاب كامل اليمن، وهو ما يعني أن أي ترتيبات لتسوية سياسية لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الدور الذي ستؤديه اليمن في معادلة الأمن الإقليمي .