ما إن أنهيت دراستي الابتدائية في مدرسة (الصديق) بقريتنا الأصل (بيت البعداني) بمديرية بعدان حتى ضغطت بكل قوة على الوالد والوالدة بضرورة نزولي إلى مدينة (إب) لدراسة صف أول إعدادي. (سابع) حاليا، رغم أن هناك مدرسة إعدادية في مركز المديرية.
ونتيجة لإلحاحي وضغط الوالدة رحمها الله معي وافق أبي رحمه الله على نزولي للدراسة في إب ببيت (خالي) رحمهم الله والذي وافق على مضض بسبب شهرتي بالمشاغبة، وفعلا حزمت أمتعتي القليلة ونزلت مع والدي إلى بيت خالي والذي أوصاه أبي أنه في حال صدر مني أي شغب في البيت أو في المدرسة فما عليه إلا إبلاغه برسالة مع أي شخص، سجلت في مدرسة (الفاروق) الإعدادية بمنطقة الظهار وقد أصبح اسمها الآن مدرسة (أروى) للبنات بينما تم نقل مسمى مدرسة الفاروق إلى مدرسة في أبلان..
المهم انتظمت في الدراسة ومر شهر وكل شيء على ما يرام سوى مشاغبات عادية إلى أن حلّت الكارثة بالنسبة لي وهي حدوث شجار بين مجموعة من الطلاب من أبناء بعدان ومثلهم من أبناء مدينة إب حيث كنا قد كونا شلليات كما يحصل في مثل أعمارنا، كان من نتيجة ذلك الشجار تحطيم بعض نوافذ الفصل، المهم أصدرت إدارة المدرسة قرار بفصلنا جميعا وطبعا كنت أنا على رأس القائمة والمطلوب إحضار ولي الأمر، فأظلمت الدنيا في وجهي ولم أعرف كيف أتصرف؟
كنت أبكر الصباح واحمل الكتب على أني ذاهب إلى المدرسة ولكني كنت أذهب إلى ملعب الكبسي وأتعلم سواقة السيكل ثم اتجه بعدها إلى السوق المركزي القديم المجاور للملعب فأتناول الشفوت والسلطة التي كانت تباع هناك ولم أذق ألذ منها حتى الآن.
وبعدها أعود وقت الظهر إلى البيت وهكذا استمر الحال وانا في هم وضيق وأظل أفكر طوال الليل كيف يكون المخرج؟
فإن أبلغت خالي قد هو مني إلى النُخر فلن يتردد لحظة في بعث رسالة إلى أبي، وإن سكت ضاعت السنة وأنا حريص جدا على الدراسة.
وبعد مرور أكثر من أسبوع اهتديت إلى فكرة في إحدى الليالي وهي أن أبحث عمن يقوم بدور (الأب) بالنسبة لي أمام إدارة المدرسة وبالطبع لا يكون هذا الشخص معروف حتى لا يتسرب الخبر ويصل إلى خالي ومنه إلى أبي. توجهت في الصباح إلى السوق المركزي وكان بجانبه مبنى المرور على ما اعتقد وحول هذا المبنى يتجمع ( العُمال ) الذين يبحثون عن عمل فأخذت أتفرس وانظر إليهم من منهم يستطيع أن يقوم بالدور ويرفع راسي أمام إدارة المدرسة حتى وقع اختياري على شخص فأخذته على جنب وشرحت له الحكاية كلها وأن عليه أن يقوم بدور الوالد أمام إدارة المدرسة . ففكر قليلا وقال: مافيهاش حاجة هذه أنا معي جهال؟
فقلت له: ولا فيها حاجة وقت قصير وترح لك .
فقال: أنت يا ابني عادك جاهل ولا تعرف بشيء لكن تمام أنا موافق كم با تجيب لي اشتي مئة ريال ؟
طبعا كان مبلغ كبير في تلك الأيام
فقلت له ما به معي غير خمسين ريال .
فقال: (خمسين خمسين) هاتها فقلت له أعطيك الآن خمسة وعشرين وبعد العملية أعطيك النصف الثاني. وافق على ذلك واذكر أنه مسك واحد يبدو أنه كان معروف معه وابتعد به قليلا وأخذ يحدثه ويشير بيده نحوي وفي الأخير أخذ منه ( الغترة ) التي كان مشدد بها وتشبه غترة ياسر عرفات من حيث الشكل وكانت حديثه في اليمن ثم أخذ منه الحزام والجنبية ولبسها وقال : توكلنا على الله ومشينا في اتجاه مدرسة الفاروق أنا أمامه وهو خلفي كانت الطريق إلى المدرسة ترابية وما حولها خالي من المباني باستثناء عدد قليل متناثرة في أماكن مختلفة وكانت الحقول الزراعية ( الجرب ) منتشرة بشكل واسع ، أخذ يحدثني ونحن في الطريق ويقول : لكن سهل لو أتحمس عليك وارفع صوتي أمام المدير فلا تفتجع ! فقلت له تمام.
وعندما اقتربنا من المدرسة قال: هاذيك هي المدرسة يا (كامل) ؟
فالتفت إليه وقلت له: اسمي كمال مش كامل لا تفضحنا وكنت قد حفظته اسمي واسم أبي وجدي فضحك وقال: ايوه صح اسمك كمال. واشتيك تطبع لي وجهك أنك با توفني بقية الخمسين بعد العملية!
فطبعت له وجهي فقال أنا عارف إنك عند كلمتك وأنك ابن ناس حتى لو عادك (جاهل) لكن والله إنك (بسبسي) مأخوذة من البسباس وتقال في إب للطفل الحاذق ( الذكي)..
وعندما أوشكنا على الدخول إلى حوش المدرسة التي تتكون من طابقين عمل حركة ذكية وقال : يا كمال ( ونطق اسمي صح فارتحت منه ) مايصلحيش الجاهل يمشي قدام العاقل جي امشه بعدي ، ثم خلع الكوت من فوقه وكان به قطع في الظهر ووضعه على يده الشمال ، وما إن دخلنا حوش المدرسة وأصبحنا أمام الإدارة التي كانت في الطابق الثاني حتى أخذ يصيح بصوت عالي : مو من دراسة هذه كل ما تقع بعساس قالوا احضروا الأب ، تركنا أعمالنا وجينا عندكم ، فأطل المدير من فوق وشافنا وكنت خلف الرجل واحمل كتبي بيدي فقال له : أنت أبو كمال ؟ اطلعوا إلى هنا. وعندما كنا في طريقنا إلى الدور الثاني التفت نحوي وقال بصوت خفيف: أنت سمعت المدير يوم قال لي أنت أبو كمال والله يا بني أن قد سبرها الله لك. وصلنا إلى غرفة الإدارة والمدير يقف خلف مكتبه وقال لصاحبنا اتفضل اجلس على الكرسي فجلس وانا وقفت خلفه. فقال المدير ايش تشرب يا حاج ؟
فرد عليه وقال ادولي ( ستيم) أرطب حلقي . وكان هناك مشروب اسمه (ستيم ) يشبه تماما زجاجة (الميرندا والكوكا كولا ) فأحضروها له فشربها مرة واحدة ( على نخس ) وعند الانتهاء من شربها صدرت منه ( قيئه) بصوت عالي فأحسست أنا بالإحراج (كنت حريص على البرستيج ) ، أخذ المدير يحدثه عن ما حصل ويشكو له مني ومن أعمالي وقال : كمال ولد ذكي وفصيح وماسك الإذاعة المدرسية ولكنه مزعج ومشاغب ، وما بين لحظة وأخرى كان ذلك الرجل يقوم من فوق الكرسي ويلتفت نحوي ويقول أنا وهذه أعمالك ؟ فيمسكه واحد من الإدارة ويقول اهدأ يا حاج مش هنا خليها للبيت!
المهم أعطوه ورقة مطبوعة جاهزة (نماذج تعهد للطالب أو ولي الأمر) ومطلوب منه يعبيها ويوقع عليها وقد طلبوا منه ذلك، فأحسست أنا بخوف شديد وفكرت بالهروب ولكن الرجل طلع ذكي ومسك الورقة بالعرض لأنه لا يعرف يقرأ ولا يكتب وقال : أنا نزلتمني من بعدان على شان أوقع على هذه الورقة عليا الحرام والطلاق ما أوقع توقيع ! وبعد شد وجذب قالوا له : خلاص ما دام قد حلفت ابصم بصم ، وقربوا له أدت البصم وامسك أحدهم بإبهامه ووضعها على الأداة ومن ثم على ورقة التعهد فعل الرجل ذلك وهو ينظر إلي ويقول : هذا لجلك بصموا عينك ، كانت دقات قلبي تتسارع خوفا من حدوث شيء ونحن أوشكنا على النهاية ، وكان خوفي في محله : فقد قال المدير : خلاص يا كمال اذهب إلى فصلك ، فقام الرجل وقال لا لا عادنا بحاجته ( خايف لا تطير منه الخمسة والعشرين الباقية ) وخفت أنا إذا ذهبت تحدث مصيبة ، فقال المدير خلاص معاد فيش حاجة المطلوب منك فقط أن تؤدب كمال وتدفع ( ميتين ريال ) غرامة لصندوق المدرسة ، تغير وجه الرجل واعتقد أنه ما بعد البصمة إلا السجن المركزي إذا لم يدفع ، أما أنا فقد فقدت وعيي لربع دقيقة تقريبا وعندها قام الرجل وقال لي : قد قلت لك إن عادة جاهل ما صدقتنيش ؟ ثم التفت إلى المدير وقال اسمع يا صاحبنا لا هو ابني ولا أعرفه ولكن سوف أأدبه وأعطاني مطراق خلف رأسي بكل قوته حتى وقعت على الأرض وتبعثرت الكتب من يدي ( تخيلوا يد شاقي وأنا طفل يصل عمري إلى ثلاثة عشر سنة تقريبا ( صف سابع ) ) وبعد أن فعل فعلته هرب ولحقه المدير ومن كان معه وأثناء ذلك حاولت استجماع وعيي وخرجت هاربا خلفهم ، الرجل قفز فوق قلاب يحمل ( تراب ) فلم يلحقوه ، أما أنا فاتجهت إلى أحد الحقول الزراعية المجاورة وكنت امضر ( قصب السكر ) وابكي وقد ازداد الأمر تعقيدا ضياع خمسة وعشرين ريال وضربة وتزوير ، أسبوع كامل لم أذق النوم إلا قليلا وكنت ادعوا الله طوال الليل وأناجيه أن يخرجني من هذه الورطة واعتقد أنها كانت من أصدق المناجاة التي ناجيت فيها ربي طوال حياتي ، كنت أبكر الصباح إلى مكان العمال ابحث عن ذلك الرجل الذي لم أعرف اسمه وبيدي حجر صغيره حتى ارميه بها وأشفي غليلي ولكنه كان قد اختفى معتقدا أن الدولة بكاملها تبحث عنه ، وفي يوم جمعة نزلت إلى السوق المركزي كالعادة فإذا بي وجهاً لوجه مع المدير الذي كان يحمل مقاضي في يده حاولت اهرب ولكنه أشار لي بالبقاء في مكاني وهو يضحك فاقترب مني وقال : أين الوالد ؟ فقلت له أي واحد فيهم؟
فقال الذي خفعك قفا راسك، فقلت له لو أحضرت والدي كان بايرجعني ادرس بالبلاد ووالدي عنيف فضحك وقال لا أعتقد أنه أعنف من هذاك الرجل.
شوف يا كمال أنا أعجبني أسلوبك وهذا دليل على ذكائك وحرصك على الدراسة وكان يهمنا أنك تتعاقب وقد حصل ويضحك ثم قال : تعال بكرة إلى المدرسة واعمل أنت تعهد وانا با اقبله منك ، وفعلا حصل ذلك وكان المدير كل ما يدخل إلى الصف يقول لي : يا كمال سلم على الوالد هههه كان المدرس المصري يسألني بعدها البيه المدير يعرف الوالد فأرد عليه نعم درسوا معاً في القاهرة وطلعت بعدها رئيس فصل واجتهدت وحصلت على المركز الثاني ، أما والدي رحمه الله فلم يعرف بالحكاية إلا وأنا في سنة التجنيد أخبره أحد أولاد عمي وكان صديقا للمدير ولما شرحت للوالد الحكاية قال : بيض الله وجهه ذلك الرجال يقصد الذي خفعني خلف رأسي ، رعى الله ذلك للمدير وذلك الطهر والنبل فإن كان قد مات فنسأل الله أن يرحمه ويغفر له وإن كان على قيد الحياة فنسأل الله أن يمتعه بالصحة والعافية ، أما ذلك الرجل اسأل الله أن يسامحه .