جدلية مفهوم الثقافة والمثقف قديمة نسبياً، فقد ظهرت هذه الكلمة بالفرنسية بداية القرن السابع عشر (culture)، وكانت تعني الزراعة وفلح الأرض، ومنها انتقلت إلى الألمانية، في القرن الثامن عشر، مع دلالة أخرى تتعلق بالتربية وتهذيب العقل بالعلم والتعلم، وكانت هذه الدلالة تقترب من معنى حضارة، مع فارق أن الثقافة حالة فردية بعكس الحضارة حالة جمعية.
ومرّت المفردة بتطوّرات دلالية عديدة، حتى استقرّت مع بداية القرن العشرين، عند معنى التعليم والتعلم، وتغير المصطلح في الدلالة المعجمية. ودار نقاشٌ كثيرٌ حول هذه المفردة، لدى مفكرين وكُتاب كثيرين وأيضا لدى دوائر المعرفة، أو الموسوعات المعرفية التي تطرقت لتعريف الثقافة والمثقف، كالموسوعات البريطانية والفرنسية والألمانية. لكن الثقافة في المعجم العربي، وفي المصطلح العربي، لم تكن تدل دلالة معجمية مقاربة لمدلولها اليوم، فقد كانت تدلّ على شيء آخر من الفهم والتسوية للشيء، كقولهم ثقف الرمح أي سوّاه وعدّله، ولم يكن هذا المعنى ذا دلالة عقلية أو فكرية، كما هو اليوم. لكنه (لفظ الثقافة) يبقى لفظا اشتقاقيا، وأصبح اليوم أكثر قدرة على التعبير الدقيق عن مصطلح الثقافة، وهو التعريف الذي يقترب كثيرا من المفهوم الحاضر اليوم للمعنى، لكنه دخل متأخراً الحقل التداولي اللغوي في الاستعمال الراهن، ولكنه أكثر قربا من الدلالة المقصودة للمصطلح.
ويقودنا هذا إلى التعريف الشهير لتايلور أن الثقافة "ذلك المركب الكلي، المتضمن للعقائد والمعارف والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، وأي قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضوا في مجتمع ما". وهذا يقودنا إلى الحديث عن أن الثقافة ليست البناء الفكري فحسب، وإنما أيضا القيم والسلوكيات الفردية والمجتمعية، وما يرتبط بهما من تقاليد وأعراف وأخلاق، وقد تضاف إلى ذلك كله أدوات الإنتاج والعمل والبناء في المجتمع.
الثقافة ليست حالة ترفيهية أو كمّا معرفيا أو زيادة معرفية تلقينيه وتخزينية في الذاكرة لدى هذا الشخص أو ذاك
وبالتالي، قرّبنا حجم الجدل بشأن مفهوم الثقافة ودلالاتها أكثر في القرن الـواحد والعشرين، من إيجاد تعريفٍ ومقاربة، يكاد يتفق حولها باحثون ومهتمون كثيرون، وهو أن الثقافة ليست حالة ترفيهية أو كمّا معرفيا أو زيادة معرفية تلقينيه وتخزينية في الذاكرة لدى هذا الشخص أو ذاك، ومن ثم نستطيع أن نقول عنه إنه مثقف أو غير مثقف.
وإنما الثقافة، في المجمل، كما يذهب إليه مالك بن نبي، هي المبادئ والسلوكيات والقيم الاجتماعية التي ينشأ عليها الفرد منذ الصغر، ويصبح بذلك يحمل رسالة الثقافة، وهذا المعنى هو الأقرب إلى المفهوم الذي ذهب إليه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في تعريف مسألة الثقافة ومقاربتها. فالثقافة قيم وسلوكيات اجتماعية وحضارية، أي المشترك الإنساني والاجتماعي بين كل الناس، وأن يكون المثقف عضويا رساليا، حاملاً قضايا المجتمع ومدافعا عن حقوقه وكرامته، مدافعا عن المحرومين والمنكوبين.
وانطلاقا من هذا المقدّمة السريعة، يمكن مقاربة الثقافة بأنها تلك القيم الإنسانية، من قيم الخير والجمال والحرية والعدالة والكرامة، حيث تتحوّل هذه القيم إلى سلوكيات وممارسات يومية لدى الفرد والمجتمع على حد سواء، فالمجتمع يُنشئ أفراده عليها ويفترض أنه بذلك مجتمع مثقف، باعتبار الثقافة ليست حالة فرديةً، بل مجتمعية، كما يقول باولو فريري، وهو مع فكرة أن الثقافة سلوك وقيم أيضاً، وهو السياق نفسه الذي ذهب إليه المفكر الإيراني الأبرز علي شريعتي، الذي يذهب إلى المنحى نفسه إن الثقافة ليست كمية المعرفة التي تحشر في الدماغ، إنما هي القيم والسلوكيات التي تنتج عن هذه القراءة وما تعمله في الإنسان من تهذيب لطباعه وتمدين سلوكه وطموحاته، وتجعل منه إنسانا نافعا لنفسه وذاته ومجتمعه والفضاء الاجتماعي الذي يعيش فيه ككل. وتكاد هذه المقاربة، باعتقاد كاتب هذه السطور، تكون الأكثر أهمية ودقّة، كما ذهب إليها باحثون كثيرون في هذا السياق، إن الثقافة قيم وسلوكيات ينشأ عليها الفرد، وتتحول إلى مبادئ عامة حاضرة في حياة الناس وفضائهم الاجتماعي. وحضور المثقف هنا يكون لتعزيز هذه القيم ونشرها، بحيث يتحوّل المجتمع إلى مجتمع منتج وأكثر إيجابية وتمدّناً من غيره.
المثقف الحقيقي هو نبي مجتمعه وزمانه، والنبوة هنا تعني الحكمة وليس الرسالة الدينية
من هو المثقف إذن، على اعتبار أن المعرفة من أدوات صناعة المثقف، وأحد روافده وليست كل شي حسب المقاربات السابقة، فليس بالضرورة أن كل من يقرأ يكون مثقفاً، لكن بالضرورة أن يكون كل صاحب قيم أخلاقية مثقفا، وكل من يحترم مجتمعه، ولا يتعالى عليه، ويحمل من قيم الخير والجمال والحرية والكرامة لهذا المجتمع، فهو قطعاً مثقف. وهذا ما ذهب إليه المفكر الإسلامي ورئيس جمهورية البوسنة والهرسك، علي عزت بيغوفيتش، في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، حينما تحدث عن الثقافة، وهو يفرّق بين الثقافة الشعبوية والجماهيرية والفردية. يكتب إن الثقافة مجموعة القيم التي ينشأ عليها الفرد، وتتحول إلى خريطة أفكار وعمل وانطلاق لهذا المجتمع، بحيث يصبح المجتمع في مأمن من الامتيازات السياسية والاحتكارية والفوضى والاحتراب. وبالتالي، نستطيع أن نقارب هذه المقولة، حتى بالمفهوم الثقافي لدى المجتمع الياباني الذي يعدّ أقرب في تعريفه الثقافة أنها سلوك وقيم محافظة متعارف عليها في المجتمع، ويحترمها الجميع ويسير وفقها.
مفكرون كثيرون، منهم تشومسكي وبالو فريري، وغيرهم ممن قاربوا المسألة الثقافية بأنها قيمية أخلاقية بحتة، قبل أن تكون مدارك معرفية فحسب، ولهذا لو قاربنا الثقافة بالمفهوم التقليدي لا يوجد مثقف بحجم محرّك البحث غوغل اليوم، فهو اليوم، وفقا للتعريف التقليدي للثقافة، شيخ الثقافة بحجم المعلومات التي لديه، ولكن هذا التعريف يبقى آليا (روبوتيا)، لا معنى له، بالقول إن المثقف هو من يمتلك كمّا هائلاً من المعلومات، ويخزّنها في ذاكرته، وكيف يتسنّى لنا بعد ذلك أن نسمّي هذا الكم المعلوماتي الثقافة، وهي مجرّد معلومات مخزّنة.
المثقف، كما ذكر أعلاه، حامي قيم الخير والجمال والحرية والكرامة لمجتمعه وحاملها، وهذا هو الإنسان المثقف، الذي يعتبر نفسه جزءا من هذا المجتمع، ومسؤولا عن كل ما يصيبه من خير أو شر، ويؤنبه ضميرُه لكل ما يواجه مجتمعه من أزمات سياسية أو اقتصادية أو صحية أو تعليمية وبيئية واجتماعية وغيرها. ويسعى هذا الإنسان، من خلال ضميره الثقافي الحي، الذي يهمه أمر هذا المجموع العام ليساهم في وضع الحلول والمقاربات بالسعي إلى الإنتاج والعمل، بدلاً من أن يظلّ منظراً من خارج السياق والأزمة، أو من بروجه العاجية كما تُسمّى، فهذا هو المثقف الكلاسيكي الحالم، الذي يقول عنه غرامشي إنه لا يستحق أن يسمى مثقفاً، ولو حاز أعلى الشهادات الجامعية.
المثقف ليس الانتهازي الذي قرأ كتباً كثيرة، وهضم قصائد وأمثالاً كثيرة، يتحوّل إلى سمسار يتاجر بأزمات المجتمع
وبالتالي، المثقف العضوي أو الرسالي أو الحقيقي هو الذي يكون حاملاً قضايا مجتمعه وصاحب دور رسالي، كأدوار الأنبياء والمصلحين على مرّ التاريخ، بمعنى أن المثقف الحقيقي هو نبي مجتمعه وزمانه، والنبوة هنا تعني الحكمة وليس الرسالة الدينية، بمعنى أن النبوة انتهت، لكن الحكمة من النبوة والإصلاح الاجتماعي مستمرّة ولم تنته، ويحملها المثقف كقيم للخير وصلاح هذه المجتمعات.
وقد يكون من يحمل قيم الخير أيضا ليس ضليعا بالمعرفة، قد لا تكون لديه قراءة لكل ما في التاريخ والفلسفة والفقه، وكل ما في المتون اللغوية والروايات ودواوين الشعراء. قد يكون المثقف أحياناً شبه أمي، لكن لديه من القيم والسلوك والعادات والتقاليد التي تحترم الإنسان وتعلي من إنسانيته، والتي تعمل لصالح الإنسان والمجتمع، ما يفتقر لها كثير من دود الكتب أو حاملو الشهادات العليا، مرضى التعالم كما سمّاهم مالك بن نبي.
المثقف ليس ذلك الانتهازي الذي قرأ كتبا كثيرة، وهضم قصائد وأمثالا كثيرة، وشاهد أفلاما ومسلسلات كثيرة، وبعد ذلك يتحوّل إلى سمسار يتاجر بأزمات المجتمع، ويتعالى على مجتمعه، ويجعل من نفسه فريد عصره ووحيد دهره، وهو يعتاش على ألم مجتمعه وتمزقاته، ويصنع الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد. ولا يكتفي بذلك، بل يُنظر إلى كل الكوارث التي تحلّ بالمجتمع من كوارث النخب السياسية والمناطقية إلى المذهبية قدرا لا مفرّ منها، وكل الآفات التي تصيب الاجتماع البشري والاجتماع الوطني بدرجة أساسية. هذه المقاربة هي التي نحن في أمس الحاجة إليها لفهم هذه الإشكالية وإعادة بناء منظومة جديدة للأفكار تستند إلى راهنية القراءة النسقية للأفكار وتنزيلاتها على أرض الواقع، وليس في المخيال المثالي المفترض.
* من موقع (العربي الجديد)