قطعاً، لم يكن الأمر مجرّد حدث مونديالي كروي عابر، في نسخته العربية الراهنة التي تستضيفها قطر حالياً، فللمونديال أكثر من معنى ثقافي وسياسي وحضاري أيضاً، فليس الأمر مقتصراً على أنه مجرد ترتيب مباريات كأس العالم وتنظيمها فحسب، وإنما أكبر من هذا بكثير. ولهذا ظلت القمم المونديالية رهينة للقوى الدولية الكبرى على الدوام، وهذا ما جعل من هذه النسخة المونديالية العربية لونا آخر مختلفا عما سبقها، فقطر في ميزان هذه القوى دولة صغيرة جغرافيةً وسكاناً، وكان القبول باستضافتها المونديال ربما لم يكن أكثر من مجرّد تعجيز لقدرة دولة صغيرة في أن تعدّ لمثل هذا الحدث الكوني الكبير، ولكن المفاجأة كانت أكبر من المتوقع بكثير، ليس فقط من حيث إمكانية الإعداد والتنظيم فحسب، بل وأيضا من حيث شكل (ومضمون) الرسالة التي أنجزتها قطر من خلال هذا المونديال، وهي رسالةٌ ستشكّل دلالة فارقة وكبيرة في عالم اليوم وعالم الغد على حد سواء، فأن تتصدر دولة عربية صغيرة كقطر لحدث كبير كهذا، لا شك أن فيه رسائل ودلالات كثيرة أرادت القيادة القطرية تقديمها نيابة عن العرب كلهم، وهو أنها قادرة، وباستطاعتها ذلك وبكل سهولة ويسر، وأن احتكار القوى الكبرى هذا الامتياز المونديالي يجب أن ينتهي، وأن ثمّة أمما أخرى لها الحق في فعل ذلك، وفي ظروف وشروط أفضل بكثير مما لدى الآخرين، وهو ما أُثبت وتحقق في هذا المونديال الكبير.
ما قامت به قطر خلال هذا المونديال، وأنفقته من أموال كبيرة كلها صبّت في صالح إحداث نقلةٍ نوعيةٍ كبرى في البلاد، وفي بنيتها التحتية ككل، ما يعدّ نقلة نوعية وكبيرة في هذا السياق. ولم يكن العمل مقتصرا على مستوى إعداد استادات للمباريات فحسب، بل تحولت البلاد كلها إلى ورشة عملٍ دائمة، حوّلت الدوحة إلى واحدةٍ من أجمل المدن وأحدثها، ليس على مستوى المنطقة العربية فقط، بل وربما العالم ككل، لما أدخلته من تحديثاتٍ على كل المستويات العمرانية والبلدية في هذه المدينة التي تكاد تكون في طريقها إلى أن تصبح مدينة ذكية كاملة التجهيزات.
لم يعد هذا الأمر مهما للنقاش، فالأهم ما أحدثه هذا الحدث ورسائله المتعدّدة ومضامينها الكثيرة والكبيرة، وعلى كل المستويات، وفي مقدّمتها تجاوز كل المحاولات الرامية إلى منع الوصول إلى لحظة افتتاح المونديال، وكيف باءت كل تلك الجهود بالفشل أمام الإصرار والمثابرة والتحدّي للوصول إلى لحظة الحدث في الافتتاح الذي سابق الزمن. وكانت كل تلك التحدّيات والعراقيل في طريق المونديال بمثابة الوقود الذي جعل هذا المونديال يبدو بكل هذا الاختلاف والتميز، وجعله أكثر إثارةً وزخما من غيره، فالتحدّيات دائما ما تنتج تحدّيا مضادّا وأكثر قوة وإصراراً. ولهذا حرصت القيادة القطرية على أن تكون كل تلك الرسائل حاضرة في حفل الافتتاح، لتكون رسالة مختلفة واضحة إلى الجميع.
أولى تلك الرسائل أن الهيمنة المركزية للثقافة الغربية ليست شرطاً لأي تقدّم أو نجاح أو إنجاز هنا أو هناك، وأن ما تنادي به هذه الهيمنة وتفرضه مسلّمات غير قابلة للنقاش، يجب أن يتوقف، لأن هناك أمما وشعوبا لديها سرديّتها الثقافية المختلفة ورؤيتها الخاصة لنفسها وثوابتها ومقدّساتها وقيمها، وأن هذه الرؤية نابعة من عقيدة هذه المجتمعات ومقدّساتها وتقاليدها، والتي لا يمكن المساسُ بها تحت أي مبرّر كان.
لو لم يكن للمونديال من رسالة سوى هذه، ضرورة احترام الهويات والخصوصيات الثقافية والدينية لهذه المجتمعات، يكفيه هذا نجاحا له، وهو الذي يعدّ بحق مونديالا يعكس هوية شعوب المنطقة، برسائله التي كانت واضحة إلى الجميع، والتي حضر فيها النص القرآني خطابا عابرا لكل الأزمنة والأمكنة أيضاً، خطابا لكل شعوب الأرض قاطبة، التي يجب أن تتعايش وفقا لمبادئ العيش المشترك والاحترام المتبادل للقيم والثقافات.
ختاماً، الهيمنة الثقافية الغربية اليوم أمام تحدٍّ حقيقي، يتمثل في تراجع السردية الغربية، لأن هذه العقدة الغربية، عقدة الهيمنة الغربية كما سمّاها غرامشي، يجب اليوم أن يُعاد النظر فيها، فقد تسببت بكثير من الخراب والدمار لشعوب الأرض في ما مضى ولا تزال، وأهم دوافع الحملات الاستعمارية الغربية هو هذه النزعة الغربية بالتميّز العرقي والعقلي والعلمي والثقافي.
لهذا كله، لمونديال قطر كل هذه الأهمية، من خلال رسائله الواضحة في أن ثمّة شعوبا لها سرديتها الخاصة بها، والتي يجب أن يحترمها الجميع، وأن شعوب هذه المنطقة قادرةٌ متى ما توفرت لها ظروف الإبداع والنهوض أن تقدّم شيئا ذا قيمة للبشرية، شريطة أن يتخلى الغرب عن إسناد قوى الفساد والاستبداد التي تجثم على كاهل شعوب المنطقة منذ رحيل الاستعمار الذي استبدل نفسه بأنظمة عسكرية بوليسية قمعية تابعة له، قمعت شعوبها وفرضت عليهم تصوّراتها المتخلفة، التي جعلت هذه الشعوب قطيعا لا تفقه شيئا سوى ما تكرّره حكوماتها وتطلبُ من شعوبها القيام به، وفي مقدمته الطاعة العمياء للحاكم وتقديسه وعدم الخروج عليه، هذه الرؤية التي كشفها هبوب رياح ثورات الربيع العربي الذي وقف الغرب بالضد منها، وعمل على إفشالها.
الرسالة الثقافية لمونديال قطر، والتي قُدّمت بشكل سهل وسلس وغير متكلف، من خلال الفتى القطري المعجزة غانم المفتاح والممثل العالمي مورغان فيرمان، وذلك الحوار الإنساني العظيم الذي دار بينهم، لو لم يكن في حفل افتتاح المونديال إلا هذا الحوار الإنساني الراقي لكفى بهذا المونديال نجاحاً كبيراً، وذلك بحضور هذا الخطاب القرآني لفتى من ذوي الاحتياجات الخاصة، والذي عكس أي مكانة يتربّع عليها فتى كهذا في حضارتنا وثقافتنا، نحن العرب والمسلمين، عدا عما تمثله رمزية مورغان كأسود عانى قومه طويلا ولا يزالون في سراديب المركزية والتصوّرات الغربية العنصرية.
لقد نجح مونديال قطر فاتحا المجال واسعا أمام حضور كل السرديات الثقافية للبشرية في تنوع إنساني بهيج، يحترم القيم الدينية، وقيم العيش المشترك، ذلك التنوّع الطبيعي لبني البشر، تنوّع لا تشوبه شوائب التدخلات غير الأخلاقية والمنحرفة في عالم اليوم، في ما يتعلق بمحاولة التدخل في شكل هذا التنوع ولونه خارج سنن الفطرة الإنسانية وقوانينها. نحج المونديال برفضه كل أشكال التدخل في قوانين الفطرة البشرية، ذلك النجاح الذي عكس ثقافة المجتمعات الشرقية ورؤيتها وسرديّتها الثقافية التي يجب أن تُحترم، وهو ما عكسته كل فعاليات المونديال حتى اللحظة، ما قدّم صورة واضحة عن هذه المجتمعات التي لا ينقصها سوى قيادة تحترم شعوبها وثقافتها وتقاليدها وقيمها، ولا تنسلخ عنها تحت أي مبرّر أو عنوان كان، ففي الأخير سنبقى عربا ومسلمين، لنا قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا التي يستحيل أن نتخلى عنها يوما.
*العربي الجديد