عندما قرر اليمنيون الجنوبيون الأخذ بمنهج التصالح والتسامح طريقاً نحو مستقبل آمن في اللقاء التاريخي المنعقد في ردفان عام ٢٠٠٧، كانوا يدركون أن الألغام الكبيرة التي يعج بها مسارهم نحو المستقبل ستظل مصدر تهديد دائم لاستقرارهم، ومبعث صراعاتٍ مستمرة ؛ ولذلك فقد اتفقوا على اجتثاث هذه الألغام ، ومعالجة مشاكل الماضي ، وما رتبته من أضرار هنا وهناك ، على النحو الذي يجنب المجتمع الانزلاق نحو الثارات والصراعات ، وبروح منسجمة مع ما يبثه التصالح والتسامح من حاجة لتحقيق العدالة الانتقالية وجبر الضرر .
يشمل "ماضي الجنوب" فترة ما قبل الاستقلال ، الفترة الكولونيالية ، التي كرست ثقافة الانقسام الاجتماعي ، وظلت تنتج آثارها في صور مختلفة من الصراعات داخل بنية الدولة الوطنية ، وحتى اليوم . إن التوقف بتعريف الماضي عند الفترة التي تبدأ منذ الاستقلال وبناء الدولة الوطنية ، ليس سوى محاولة انتقائية ، أشبه بعملية مختبرية ، يجري فيها عزل التجربة عن المؤثرات المحيطة بها ، وهي عملية لا يمكن أن تحقق نتائج مقبولة علمياً عندما يتعلق الأمر بالعمليات الاجتماعية والتاريخية التي لا يمكن فصلها عن بعض حينما يكون الهدف من التأريخ احترام وظيفة التاريخ .
والماضي ، مثلما فيه الكثير من السلبيات، فإن فيه الكثير والكثير من الإيجابيات التي شكلت وتشكل تراثاً يعتز به الجميع . ولذلك فإن الحديث عن الماضي هنا ينصرف إلى كل ما ألحق الضرر بالمجتمع سواء في صورته الجماعية أو الفردية .
بدا ، يومذاك ، أن الجنوب يغادر هذا الماضي ويبني جسوراً مع المستقبل ، وأن إرادةً من نوع ما قد ألهمت النخب وفرقاء الحياة السياسية التطلع إلى فضاءات أرحب ، تنعم بمناخات عامرة بكل ما يجعل التصالح والتسامح عملية إصلاح جذري للثقافة السياسية ، ومناهج التفكير ، والبناء المستمر لمتطلبات التفاهم والتعايش ، واحترام حق الآخر في التعبير والاختلاف ، بما في ذلك بناء أسس وقواعد إدارة الاختلاف بالحوار ، والتنازلات ، وإنشاء الآليات القانونية المحققة للعدالة .
لم يكن التصالح والتسامح دعوة لإدخال الجنوب في بياتٍ سياسي وثقافي ، بقدر ما كان تعبيراً عن حاجة موضوعية لوضعه في المكان الذي يليق به كرافعة لحياة مستقرة وكريمة لأبنائه ولكل اليمن .
وإذا كان الماضي ، في إطاره الزمني ، وسياقاته المعبرة عن ثقافة ذلك الزمن ومنتجاته الفكرية والسياسية قد حصد الكثير من المشكلات والتعقيدات ، فإن عملية الانتقال إلى المستقبل لا يمكن أن تتم إلا بمغادرة ثقافة ذلك الماضي ، ومناهج إدارته ، وانقساماته ، والعقلية التي تكلست بقيم التميز الاجتماعي ، والتملك التعسفي ، والغلبة ، والقوة ، واستمراء استقطاب المجتمع في صراعات وانقسامات ما قبل الدولة الوطنية ..فلا يمكن أن تتشكل إرادة التصالح والتسامح بمجرد الإعلان عن الرغبة ، وإنما بما تتضمنه دوافعه من قيم إنسانية ، وأهداف وأحلام وأدوات جديدة ، سياسية، ثقافية ، علمية ، ومنهجية في التفكير .
اليوم ، وبعد خمس عشرة سنة من الدعوة إلى التصالح والتسامح لا بد أن حصادها قد نبه الجميع إلى قيمتها في تغيير أنماط من السلوك السياسي والاجتماعي ، ويطرح في نفس الوقت أكثر من سؤال عن الأسباب التي جعلته يبدو وكأنه لا يزال رهينة بيد ذلك الماضي ، وأن سياسة تفجير الألغام في وجهه لا زالت تهدد هذه العملية التاريخية التي لا يمكن للجنوب أن يستقر بدونها .
تتجلى تفجير هذه الألغام في صور عدة من السلوك السياسي الذي يصر على أن يحمل معه الماضي ، أو يستدعيه عند الحاجة للاستقواء بأخطائه لتبرير خيبات الحاضر . إن مثل هذا الاستقواء ، الذي يقدّم في كثير من الأحيان على أنه مراجعة للدرس ، ليس
سوى مجرد طاقية إخفاء مؤقتة لا تلبث أن تفقد مفعولها الذي يتلاشى بقوة الحقائق التي لا تتحلل مع الزمن ، بل تحافظ على عناصرها المكونة لها طال الزمن أو قصر , وسيكتشف هذا السلوك أن كل ما يفعله إنما هو إعاقة لعملية الانتقال إلى المستقبل ، وتقديم المزيد من الضحايا ، وإطالة عمر هذا الماضي بأفاعيل متشبثة بموروث الصراعات ، والإصرار على مواصلة تفعيل منطق ملازم لهذا الموروث ، وهو منطق أكثر إثارة للانقسامات والصراعات .
لقد كانت الدعوة إلى التصالح والتسامح عملاً رشيداً ، أمسك فيه "العقل الفعال" بالمبادرة في حين تراجع " العقل الانفعالي" وكاد أن يختفي ، وهي من المحطات النادرة في التاريخ السياسي للجنوب ولليمن عموماً.
لقد كان لا بد أن يواصل "العقل الفعال" قيادته لمواجهة التحديات التي ستواجه التصالح والتسامح ، ومن بين هذه التحديات صعوبة عزل الجنوب عن فضائه اليمني الواسع بكل تناقضاته وصراعاته ، وكذا تأثيرات المحيط العربي في صياغة المسارات السياسية ، وهي عوامل أدخلت هذه العملية في تحديات حقيقية لا بد من أخذها بعين الاعتبار حتى لا تبدو وكأنها تعاني من قصور ذاتي ، في حين أن قيمتها الحقيقية ستتجلى من خلال قدرتها على شق طريقها نحو أهدافها وسط هذه التحديات والاعتراف بها والتعاطي معها بالعقل الفعال لا العقل المنفعل .