لأول مرة منذ أن تأسس في السابع عشر من أيار/ مايو 2017 يشعر المجلس الانتقالي الجنوبي أنه مرتبك بالفعل، بما لا يسعفه على التحكم الكامل بمساره نحو تحقيق هدف الانفصال على نفقة الجمهورية اليمنية وبإمضاء قيادتها الشرعية، كما اعتاد خلال السنوات الماضية، فيما يواصل المشروع الآخر المدعوم من أبو ظبي بقيادة العميد طارق محمد عبد الله صالح؛ السير بخطى ثابتة نحو تأسيس مستعمرة سياسية في جنوب البحر الأحمر دون منغصات.
لم يعد بالإمكان اليوم الحديث عن فضاء جنوبي مفتوح وخاضع للمشروع السياسي الانفصالي الذي يحمله المجلس الانتقالي الجنوبي، ويكاد يتلاشى كإطار جنوبي جامع ويفقد هيبته نتيجة فقدانه السيطرة على القيادة الجديدة للشرعية التي يمثلها الرئيس رشاد العليمي، على وجه الخصوص، والتي لطالما نظر إليها قادة الانتقالي باستخفاف واعتبروها مطية سهلة للوصول إلى هدف الانفصال دون قتال أو كلف عسكرية.
عكس المجلس الانتقالي الجنوبي إرادة مشتركة لدولتي التحالف (السعودية والإمارات) بشأن ضرورة الاستثمار المادي والسياسي والعسكري في إعادة إنتاج مشروع انفصالي ببينة هيكلية تقوم على أنقاض التيارات الحراكية، التي كانت قد ارتبطت بشكل وثيق بالمشروع الإيراني عبر الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت.
تركز اهتمام دولتي التحالف على ضمان السيطرة على المشروع الانفصالي بواسطة المجلس الانتقالي الجنوبي، وتوظيفه في تشتيت القوى اليمنية عبر صراع مستدام حول شكل الدولة وهويتها ووجودها ككيان موحد، وبما يمكّن من الوصول إلى الأهداف الجيوسياسية لكلا الدولتين.
لكن تفرد الإمارات بالسيطرة على المشهد الجنوبي ونجاحها في تجيير المجلس الانتقالي وقياداته لصالحها، عبر سلسلة من عمليات التطويع القائم على الإغراءات المادية، والابتزاز الأمني والسقطات الأخلاقية، دفع بالسعودية إلى تحصين نفوذها في الجنوب عبر استخدام التركة السلفية التي تناسلت من معهد دماج للحديث، وقد رأينا كيف هيمنت هذه التركة على التشكيلات العسكرية الجنوبية بما فيها تلك التابعة للمجلس الانتقالي، قبل أن تتمايز ضمن وحدات مستقلة مثل ألوية العمالقة، وأخيراً قوات درع الوطن.
وبالإضافة إلى ذلك حركت السعودية ملف حضرموت، متكئة على استعدادٍ طبيعيٍّ لدى مجتمع المحافظة لمواجهة المشروع التوسعي للمجلس الانتقالي وتشكيلاته العسكرية التي تشكل بنظره امتداداً لهيمنة جهوية سيئة كانت قد تركت ندوباً كبيرة في وجدان أبناء حضرموت في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، التي عاشوها تحت سلطة جمهورية اليمن الديمقراطية.
خطوة تأسيس قوات درع الوطن والتي أصبحت جزءا من قوام القوات الحكومية بقرار رئاسي، وضعت المجلس الانتقالي أمام اختبار الهيمنة المطلقة على العاصمة السياسية المؤقتة عدن، والأهم أن هذه القوات ربما تكون سبباً في تقويض المستعمرة السياسية التي دأب الانتقالي على إنشائها في عدن بدعم إماراتي، وهي مستعمرة لا تعكس أي معنى سياسي أو تاريخي سوى أنه يراد لها أن تتموضع ككيان رخو تنفذ من خلاله الطموحات الجيوسياسية لـ "أسبرطة الصغيرة" في جنوب شبه الجزيرة العربية وفي خليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي.
وفي مدينة المخا، يمضي عضو مجلس القيادة الرئاسي، العميد طارق محمد عبد الله صالح، في تكريس مستعمرته السياسية، بدعم غير مختلف عليه حتى الآن بين دولتي التحالف، غير أن التحدي الذي يعترضه يتمثل في قدرته على إحداث الالتحام المطلوب والمتفق عليه مع القوى الجمهورية في محافظة تعز؛ التي تذود عن عاصمة المحافظة في مواجهة الحوثيين وتقاوم حصارهم الشديد على المدينة والمحافظة منذ 2014 وحتى اليوم.
تتجذر هذه المشكلة بعمق لكونها ترتبط باستحقاق إماراتي، يجعل من بين أهم أهداف وجود قوات طارق والمشروع السياسي الذي يغلفها في جنوب البحر الأحمر وفي باب المندب؛ احتواء القوات المهيمنة على مدينة تعز، والتي تصنفها أبو ظبي "إخوانية"، وهو شرط ثأري أيديولوجي وذرائعي، تفرضه الحاجة إلى ضمان تحييد منطقة باب المندب عن أية سلطة مركزية يمنية، وإبقائه بعيداً عن نفوذ إيران وجماعتها المسلحة التي تسيطر على صنعاء.
تمثل مدينة المخا واحدة من أهم الموانئ اليمنية القديمة التي سيرتبط اسمها في العصر الحديث بثمرة "البن"، حيث هذا الاسم ليتحول إلى أهم علامة تجارية عالمية في مجال تجارة القهوة (موكا- Mocha coffe )، في هذه المدينة الواقعة على بعد 94 كيلومتراً إلى الغرب من مدينة تعز، وفي الآن نفسه تمثل الميناء الرئيس لمحافظة تعز على البحر الأحمر.
ولطالما تبادل ميناء المخا المكانة والنفوذ مع ميناء عدن عبر التاريخ لأكثر من مرة وفي محطات عديدة؛ أبرزها في بداية العصر الحديث، والأخرى في القرن التاسع عشر، ففي الأولى هيمنت ميناء المخا عبر احتكار تجارة البن، وفي الأخيرة هيمنة عدن بدفع من النفوذ الاستعماري لبريطانيا العظمى التي سيطرت على عدن حتى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967.
اليوم تستكمل المستعمرة السياسية لعضو مجلس القيادة الرئاسي في المخا مقومات نفوذها ووجودها، فبالإضافة إلى الميناء، يشارف المطار الجديد على الاكتمال والبدء باستقبال الطيران المدني، وهذا يقتضي تسجيله لدى اتحاد النقل الدولي (إياتا)، فيما تتواصل عمليات البناء العسكري والأمني للتشكيلات التابعة للعميد طارق، والتي تجتذب عناصر من كافة أنحاء اليمن.
ويمكن احتساب المكاسب التي تحرزها المخا اليوم، خطوة باتجاه انتزاع النفوذ الذي يفترض أن تلعبه مدينة عدن، بسبب فقدان الانتقالي الوشيك للسيطرة على العاصمة السياسية المؤقتة، ومعها الهيمنة على الفضاء الجنوبي بسبب الاستدارة السعودية بعكس طموحات الانتقالي، ودعمها الخشن للرئيس بقوات درع الوطن.
* موقع عربي 21