كل يوم يرتفع فيه صوت السلام يقابله تصعيد عسكري حوثي ..
هكذا سارت الأمور منذ اللحظة الأولى التي فجر فيها الحوثي الحرب في اليمن، وأشعل أوارها في وجه العملية السياسية التي جسدها الحوار الوطني، أي أن العلاقة بين السلام والتصعيد العسكري ظلت علاقة طردية بالمعنى الذي يصعب معه إيجاد توافقات بسبب التباعد بين المتغيرين الذي تفرضه هذه العلاقة.
هكذا أراد الحوثي، وهكذا تم تصميم مسارات الحرب في توافق تام مع ما أراد. وفي حين أنه لا يوجد تفسير لقبول الدولة بهذه العلاقة الطردية، فإن الحوثي لديه دوافعه للتمسك بهذه العلاقة التي يقوم فيها بدور التصعيد في مواجهة جهود السلام، وتأتي في مقدمة هذه الدوافع:
- أولا- أن الحرب هي مشروعه الذي يعيش عليه ويبقيه حاضرا في المشهد؛
- وثانيا- إن السلام سيفرض صيغة للتعايش بين مكونات المجتمع اليمني تكون أساسها المواطنة المتساوية، والحوثي بالطبع لا يقبل أن يكون مواطنا، فهو يرى نفسه منزها عن هذه الصفة التي تسلبه "نقاوة النسب" والتميز العرقي اللتان تجعلان منه سيدا يأمر فيطاع؛
- وثالثا- إن الحرب توفر له بيئة مناسبة لإذلال الناس، وقهرهم، وقمع أي صوت يرتفع في وجه الظلم بغطاء محاربة "العدو"..
كل هذا وهناك من لا يزال يعتقد أن السلام مع هذه الجماعة ممكن التحقيق دون هدم هذه الافخاخ التي يتمترس بداخلها، والتي أخذت تفرز مجتمعا مشوها ببؤر عنصرية، تلتهم الوطن، وتنشر عوضا عنه هويات متصارعة، وتلبد حياة الناس بغيمات الصراعات والموت والحزن والإحباط واستمرار الحروب.
لم تتغير هذه الحقيقة منذ أن قرر اليمنيون، وإلى جانبهم تحالف دعم الشرعية، التصدي لانقلاب هذه الجماعة التي تأسست في إطار مشروع طائفي إقليمي تقوده إيران على امتداد المنطقة.
مع مرور الوقت أخذت هذه الحقيقة تتضح على نحو أكثر جلاء... وكان الأمر الطبيعي هو أنه كلما اتضحت الصورة، وظهر بوضوح الجزء المخفي منها، كلما اشتدت المقاومة وتعززت قدراتها بتأسيس قواعد أكثر ثباتا وصلابة في التصدي لهذا المشروع بدلا من تفخيخ مواجهته بمراوغات ومشاورات وتنازلات بعناوين تحمل شعارات السلام، في حين أنه لا صلة لها بالمفهوم الحقيقي للسلام بأي حال من الأحوال.
سيقول البعض إننا كنا نتصرف كدولة، ونتعرض لضغوط المجتمع الدولي في التمسك بخيار السلام، وهذا صحيح!! لكن ما يجعل هذا التبرير ركيكا هو أن ما رافق ذلك من تشتت وتكريس خطاب تائه ينبذ القوة ويستجدي السلام قد ترك فراغا في وعي المجتمع بشأن الجدية في هزيمة الانقلاب واستعادة الدولة، وهو الفراغ الذي ملأه الحوثي الذي ظل يعبئ للحرب بأنيابه وضروسه ويؤسس بيئة حربية بخطاب تعبوي، كما أن البعد الشعبي في التصدي لهذا المشروع كان غائبا، وهو البعد الوحيد الذي كان باستطاعته أن يقنع المجتمع الدولي بمفهوم عادل للسلام، يتحقق بإعادة دمج هذه الجماعة المارقة في سياق طبيعي مع حاجة اليمن إلى دولة مواطنة تضمن للجميع العيش بحرية وأمن وسلام.
غاب البعد الشعبي لأن الكتلة الوطنية التي تصدت لهذا المشروع الفاسد فقدت القدرة على الالتحام بالمجتمع حينما تخلت عن أدواتها السياسية القادرة على تعبئة المجتمع، وتوجيه كفاحه في تساوق مع الحاجة الملحة لإكساب المقاومة معنى عميقا لا يتوقف بالمعركة عند بعدها العسكري وإنما تمتد لتشمل البعد الاستراتيجي المتمثل في بناء دولة المواطنة دون مخاتلة أو تردد.
لم يكن التخلي عن الأدوات السياسية وعدم القدرة على تفعيلها هو العنصر الوحيد في هذه العملية المركبة، فقد تحملت المعركة مع هذا المشروع عبء الإخفاق في بناء جسور العلاقة مع المواطن من خلال تلبية حاجاته البسيطة، وانهيار جدار الثقة الذي يمثل عامل الإسناد الحقيقي لمواجهة التحديات العسكرية والسياسية، ناهيك عن أن التحالف الذي تم التعويل عليه في بناء منظومة متكاملة من العلاقات الاستراتيجية لحماية الأمن القومي للمنطقة تعرض لتحديات داخلية وخارجية أسفرت عن إعادة النظر في بناء معادلات تكتيكية تجنب بلدانه مخاطر المتغيرات الدولية، الأمر الذي جعل السلام في اليمن يبدو وكأنه عملية مشتقة من هذه المعادلات التكتيكية التي أدركها الحوثي وهو يصر على التصعيد فور إعلان اتفاق بكين الخاص بعودة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران بوساطة صينية أقلقت الغرب من الزاوية التي اعتبرها اختراقا صينيا في شئون منطقة ظلت منذ الحرب العالمية الأولى على علاقة استراتيجية بالغرب.
يتحرك الحوثي اليوم، وبعد كل هذه التطورات، عسكريا في حريب وفي شبوة، وفي تعز يقصف بالدرون موكب محافظ تعز وقيادات عسكرية ومدنية هامة، ويصعد في وجه جهود السلام موظفا هذا المتغير السياسي باتفاق تام مع النظام الإيراني الذي أعلن وزير خارجيته بعيد التوقيع على الاتفاق أن الأزمة اليمنية شأن داخلي؛ هو بهذا يواصل التمويه من أن قضية اليمن منفصلة عما يجري في الإقليم من صراع واستقطابات وكأنه لم يكن الحالة الأكثر تعبيرا عن الاستقطاب الرأسي لنظام طائفي كرس كل سنوات حكمه منذ الثمانينيات لخلق هذه الحالة من الفوضى التي عمت الإقليم كله.
لم يعد هذا التمويه ينطلي على المجتمع الذي أخذ يتفاعل بقوة مع كل حالة رفض شعبية للسلوك الحوثي، وقد رأينا كيف تحول الشهيد حمدي عبد الرزاق المكحل إلى ظاهرة وطنية وشعبية أخذت تعيد صياغة موقف المجتمع من هذه الجماعة ومشروعها مشعلا جذوة رفض شعبي واسع.
إن التصعيد الذي أقدم عليه الحوثي في الآونة الأخيرة، وبالتحديد منذ إعلان اتفاق بكين، لا بد من أن ينظر إليه من الزاوية التي يعاد من خلالها قراءة حقيقة هذه الجماعة ومشروعها على أنها لا يمكن أن تجنح للسلام إلا إذا فرض عليها فرضا، وهو أمر لم يعد خيارا من بين خيارات عدة، فقد فشلت كل الخيارات وبقي هو الخيار الوحيد الذي سينقذ اليمن من هذه الكارثة.
ما لم فإن خيار وقف الحرب دون سلام هو ما سيفضي إليه هذا المشهد الذي يتشكل بقوالب مستعارة من تجارب تاريخية قديمة.