التواجد اليمني في السودان، قياسا ببقية الجنسيات الأخرى، كبيرا إذا ما ارتبط الأمر بقدرة الدولة اليمنية المنقسمة والعاجزة، على إجلاء اليمنيين الذين يزيد عدد وفقا لتقديرات رسمية عن 17 ألفا ما بين مقيم وطالب ورجل أعمال ولاجئ بحكم الضرورة، خصوصا أن الطرف الذي تسبب في تشريدهم وهو جماعة الحوثي، يسيطر على مقدرات الدولة ويحكم السيطرة على العاصمة صنعاء ويتابع بلا مبالاة المآلات الكارثية على اليمنيين في السودان.
لا شيء بدا واضحا بشأن جهد السلطة الشرعية في إتمام عملية الإجلاء "للراغبين في مغادرة السودان"، وهذه العبارة يتم تداولها بكثرة في البيانات الرسمية، للتخفيف من حدة الالتزام المفترض تجاه المتضررين من الحرب الناشبة بين الجيش وميلشيات الدعم السريع، على خلفية هذه الأخيرة بتكرار تجربة جماعة الحوثي في الاستيلاء على الحكم بالدعم الإقليمي ذاته تقريبا وللدوافع الأيديولوجية ذاتها.
أظهرت التنظيمات المدنية للجالية والتي تضم هيئة الجالية واتحاد الطلاب، بسالة في القيام بمهمة إجلاء الطلاب وغيرهم من أبناء الجالية، ضمن الإمكانات المحدودة، وهذا الجهد النبيل قوبل للأسف الشديد، بتشويش واتهامات وشائعات لا يمكن تفسيرها أبدا خصوصا أن عملية إنسانية كهذه لا تحتمل أي شكل من أشكال التعريض والابتزاز، والاتجار بالمواقف، أو حصد مكاسب سياسية لهذا الطرف أو ذاك.
وبعد أن سارعت ثلاث شخصيات رئيسية إلى التبرع بمبالغ مالية لدعم إجلاء هؤلاء اللاجئين على رأسهم الشيخ حمود المخلافي رئيس المجلس الأعلى للمقاومة، والشيخ حميد عبد الله الأحمر والعميد طارق محمد صالح، لم نسمع أن الحكومة بصفته حكومة خصصت بندا ماليا للإجلاء، وهذا من واجبها طبعا.
وفي هذه الظروف على الحكومة أن تعلن عن ذلك صراحة حتى يطمئن الناس، والأهم من ذلك أن توضح أنه سيجري استخدام المبلغ، لدعم عملية متكاملة تشمل فيما تشمل إيصال اليمنيين إلى أماكن آمنة، إن في بلدهم أو في البلدان التي يختارون الاستقرار فيها، وتغطية احتياجاتهم الضرورية واحتياجات أطفالهم. إذ علينا أن ندرك أن معظم المتواجدين في السودان، لا تسعهم بلدهم بسبب الهيمنة السياسية والعسكرية للانقلابيين الحووثيين، والجماعات المسلحة المدعومة من التحالف والإمارات، والتي تدعم أحدث انقلابا في السودان وتحدث كل هذا الخراب والفوضى واستباحة الدماء والأموال والمقدرات في هذا البلد.
ولأنه ما من خيار أمام من وضعوا كل رحالهم وأموالهم ومواردهم في السودان أن يتركوها دون يقين حول مصيرها وحول مصيرهم كذلك، في ظل الانفلات الحالي الذي يترافق مع المواجهات المسلحة في العاصمة السودانية، فإن العدد الأكبر ربما اختار البقاء في السودان مرغما وفي ظل أجواء الحرب شديدة القسوة والاحتمالات السيئة لا سمح الله، فقد اضطر هؤلاء للنجاة بأنفسهم من بلدهم التي لن يستطيعوا العودة إليها لان من يدعم حميدتي يدعم أعدائهم بسخاء.
من بين الأنباء الجيدة القليلة المرتبطة بوضع اليمنيين في السودان هي أن سفن الإجلاء السعودية التي تعمل عبر الخط البحري بورتسودان- جدة، تقل معها في كل رحلة العشرات من اليمنيين الذين تمكنوا من الخروج من الخرطوم والوصول إلى جزيرة مدني، ومن ثم إلى بورتسودان، لكن غالبا ما تكون عملية نقلهم ضمن آخر الاهتمامات، فالأولوية كما تابعنا انصبت على رعايا الدول ذات التأثير والبعثات الدبلوماسية، ومع ذلك لا يسعنا إلا أن نعبر خالص الامتنان للجهد السعودي قل أو كثر.
يواجه السودان تقريبا عملية انقلاب فاشلة، تبنت نفس سيناريو الانقلاب الناجح الذي شهدته صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، الذرائع التي يسوقها حميدتي وميليشياته، فهو يقدم نفسه على أنه البطل السوداني المؤهل لتخليص هذا البلد من الإسلاميين، والإرهابيين والجماعات المتطرفة، على حد زعمه، وسط إصرار عجيب على حشر هذه المفردات في كل بيانات وتغريدات هذه الميلشيات والمحتشدين في معركتها بالفضاء الإليكتروني، نفس الذرائع التي استخدمت لإفشال أنجح عملية انتقال سياسية في العالم العربي فيما بعد اندلاع الربيع العربي تستخدم في السودان اليوم.
السند السياسي لميلشيات الدعم السريع بدأ يتكشف، إنه "تجمع القوى المدنية والتغيير" الحلف ذاته الذي كلف باجتراح ربيع سوداني مريح عام 2018، والذي نفذ وفق سيناريو انتهى بالإطاحة برأس النظام الرئيس عمر حسن البشير، مع ضمانات ببقاء الجيش متحكما بالسلطة لفترة انتقالية. وانقلاب حميدتي صمم لإنهاء نفوذ الجيش المرتبط بثورة الإنقاذ، على الرغم من التنازلات الخطيرة التي قدمها هذا الجيش لصالح الأجندة الإقليمية المضادة للربيع العربي، ورغم اندفاع قادة السودان العسكريين نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لهذا مستقبل السودان محفوف بالمخاطر بالنسبة للشعب السوداني، وليس فقط للمقيمين فيه ومنهم شخصيات محسوبة على الربيع العربي، وحصلوا على الجنسية السودانية في لفتة إنسانية مشكورة من الرئيس البشير لتحقيق المستوى المطلوب من استقرارهم وتحركاتهم دون منغصات في ظروف اللجوء الاستثنائية التي فرضت عليهم وفرضت على أسرهم في بلدانهم.
إن أقسى شيئا أن يضطر اليمنيون وإخوانهم السوريون على وجه التحديد إلى خوض تجربة تشرد ولجوء جديدة، بسبب انقلابات جديدة ممولة من ذات غرفة العمليات الإقليمية المشحونة بالمال والحقد والتخادم الباذخ مع الأجندة الغربية التي ترمي إلى إعادة صياغة مستقبل المنطقة، في صورة أنظمة قاسية وعنيفة ومتعطشة للسلطة، وبلا هوية تقريبا سوى أنها تعيد تكريس المهمة القديمة التي جعلتهم أحمال ثقيلة على شعوب المنطقة وحريتها كرامتها وقرراها المستقل.