;
بلال الطيب
بلال الطيب

الوحدة وصراع الصبيان 454

2023-05-20 17:50:54

لم تكن الوحدة اليمنية أكثر من شعار مَرحلي ذا بريق أخاذ، سعى القادة السياسيون - بشقيهم التقليدي والتقدمي - من خلاله إلى دغدغة عواطف اليمنيين، ليخف ذلك الحماس مع بدء العد التنازلي لجلاء الإنجليز من عدن، عقدت الجبهة القومية مُؤتمرها الأول في مدينة تعز - أواخر يونيو 1965م، وأشارت في ميثاقها إلى قضية الوحدة إشارة مُقتضبة، ودعت إلى تحقيقها على أسس شعبية سليمة تتفق وتوجهها، ذات الموقف تبنته أيضًا جبهة التحرير، ولم يكن للخلاف الدائر بين الفصيلين علاقة مُباشرة بتلك القضية؛ فكلاهما كانا يسعيان إلى إقامة دولة مُستقلة في الجنوب، تكون طرفًا في حوار مُباشر مع الدولة القائمة في الشمال.

بدأت حينها مَطامع السوفيت في السيطرة على جنوب اليمن تتبدى، وكان وزير خارجيتهم قد أفصح عن ذلك، وقال في تصريح صحفي من مدينة القاهرة 29 مارس 1967م ما نصه: «يجب العمل على إنشاء دولة اشتراكية مُستقلة في هذه المنطقة، وأنَّ الاتحاد السوفيتي يحتفظ لنفسه بحق التصرف تجاه أي حل تقرره الأمم المتحدة تجاه مُشكلة الشرق الأوسط، وخصوصًا عدن»، شاركه وزير الدفاع المارشال أوستينوف ذات الموقف، وقال الأخير مُهددًا: «إنَّ احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة قد تتزايد بدرجة كبيرة إذا لم نستحوذ على اليمن الجنوبي، وتصبح بين أيدينا».

ألقى الصراع القُطبي بظلاله على الخارطة المُفخخة، سيطر السوفيت عبر وكلائهم المحليين على الجنوب، فيما دخل الشمال تحت مَظلة الوصاية السعودية - الأمريكية، وفي خضم ذلك التحول المُريع، لم يتبادل قادة الشطرين السفراء فيما بينهم؛ على اعتبار أنَّ الوحدة تبقى خيارًا مفتوحًا، مع فارق أنَّ كل طرف يريدها مُفصلة على مقاسه.

زادت - بفعل تلك التباينات - القطيعة، وحلَّ الشقاق، واستبدلت لغة الوحدة الطوعية بلغة الضم والإلحاق، ولم يعد التنقل بين الشطرين مُتاحًا كما كان في عهدي الأئمة والإنجليز، وأصبح المواطنون لا يستطيعون ذلك إلا بصعوبة، وبتصريح أمني خاص، وتحت المساءلة؛ بل يقفون لساعات أمام العديد من الحواجز الأمنية للتفتيش والتحقيق، وهي - أي تلك الحواجز - بلغت حينها بين صنعاء وعدن نحو 19 حاجزًا.

والأدهى والأمر من ذلك أنَّ الوحدة صارت مصدرًا لمشروعية النظامين، تغنى قادتهما بها، وتاجروا بها، واتهموا بعضهم بعضًا بعرقلة تحقيقها، ومن أجلها أشعلوا الحرب، وسفكوا الدماء.

shape3

قدَّم المُتحزبون المُتعصبون مَصلحة الحزب على مصلحة الوطن، وقدَّم المشايخ المُتسلطون مصلحة القبيلة على مصلحة الوطن، وبين هذا الفريق وذاك تاه الوطن، وغُيبت الذاتية اليمنية، واختزل مفهوم الوطن، والوطنية، والوحدة، بما يتفق وتوجه المُتصارعين، وظلت القبيلة والحزب مُتصدرتان للمشهد، مُتحكمتان بصناع القرار، والويل كل الويل لمن يحاول أن يتحرر من هيمنتهما.

كان تحقيق الوحدة في عهد الرئيسين سالم ربيع علي وإبراهيم الحمدي أمراً ممكنا، لكونهما يتمتعان بنفس الرؤية والغاية والهدف، وقبل هذا وذاك صدق توجهما، والأكثر أهمية أنهما حاولا التخلص من هيمنة القبيلة والايدلوجيا، فتُخلص - بطريقة مأسوية - منهما.

وفي الوقت الذي عاش فيه الجنوبيون على صفيح ساخن، بدأ الشماليون يستقرون سياسيًا، وأسسوا المؤتمر الشعبي العام، ليملأ التنظيم الأوحد الفراغ السياسي الحاصل 24 أغسطس 1982م، مُحتويًا القوى السياسية الفاعلة، مُتحكمًا بتوجيه نشاطها، وصار خطابها أكثر عقلانية، خاصة فيما يخص الوحدة.

علي ناصر محمد ذو النزعة السلمية في صراعه مع الشمال، فجرها صبيحة يوم الاثنين 13 يناير 1986م حربًا أهلية ضد رفاقه في الجنوب، قتل بسببها حوالي 12,000 مواطن، معظمهم من قيادات وأعضاء الحزب الاشتراكي، وقيل أقل من ذلك، فيما غادر عدد كبير من الأجانب عدن، وخسر الجنوب أربعة مليارات دولار حسب تقديرات البنك الدولي.

لم تأتِ نتائج الحرب لصالح ناصر؛ فهرب شمالًا، فيما حلَّ علي سالم البيض محله، وحين تأكد للأول تخلي السوفيت عنه؛ طالب من علي عبدالله صالح المساعدة كي يزحفان جنوبًا، ويحققان الوحدة بالقوة، رفض الأخير طلبه، واكتفى بالسماح له بمزاولة العمل السياسي تحت مسمى (الحزب الاشتراكي - القيادة الشرعية)، وإصدار صحيفة (كفاح شعب).

كان البيض حينها مع خيار عدم التسرع بتحقيق الوحدة حتى تحل الأسباب والعراقيل الحائلة - من وجهة نظره - دون ذلك، وقال في مقابلة صحفية مع صحيفة (لاتينا برس) الكوبية ما نصه: «يجب أنْ ندرك أنَّ شعار الوحدة له قوة وجذب كبرى، فالكل، الرجعي، والتقدمي، والوطني، والعميل يرفع شعار الوحدة، ويريد أنْ تتحقق.. ولذلك علينا أنْ نُكسب الوحدة محتواها الوطني والشعبي، ولا يجب أنْ نطلق العنان للحماس والعواطف بحثًا عن الوحدة الفورية، والوحدة بأي ثمن».

فجأة وبدون سابق إنذار، وفي العيد الثاني والعشرين لذكرى الاستقلال، غير البيض موقفه 30 نوفمبر 1989م، وأصبح من دعاة الوحدة الاندماجية الفورية، وأصر على ذلك، في حين كان صالح يفضل التأني والبدء بتجربة فيدرالية أو كونفدرالية تستمر لعدة سنوات، وعلى أن تدمج وزارات الدفاع، والداخلية، والخارجية، والتربية والتعليم، والإعلام، والأشغال، وقد وقعا معاً في عدن - مساء ذلك اليوم - على اتفاقية الوحدة.

بعد مُقدمات خائبة، واتفاقية هشة أبرمها الرئيسان صالح، والبيض، تحققت الوحدة اليمنية ظهيرة يوم الثلاثاء 22 مايو 1990م، بدت من الوهلة الأولى كمَخرج لقيادة شمالية طموحة تبحث عن برنامج يجمع الشعب حولها، ومَخرج لقيادة جنوبية مُنهكة، شارفت خزينها على الإفلاس، انحسرت شعاراتها وإنجازاتها مع تفكك منظومة داعميها، كان مأزقها أكبر بكثير من مأزق الطرف الآخر، فكانت هرولتها - تبعًا لذلك - إلى الوحدة بلا كوابح.

افتقر شركاء الإنجاز إلى حسن النية، والثقة بالآخر، ودخلا بعد أشهر عسل مَعدودة في صراع ليس أيدلوجي بقدر ما هو مصلحي؛ تاجروا من خلاله بأحلام البسطاء ومشاعرهم، وفصلوا الدولة على مقاساتهم، وكان همهم البقاء على رأسها، والتمتع بامتيازاتها، واستقطاب أكبر قدر ممكن من الأيادي النافذة خارجها، ظلت الوحدة - تبعاً لذلك - مرهونة ببقائهم، وظل كل طرف يتربص بالأخر؛ بدليل عدم إدماج الجيشين، أو وضعهما تحت قيادة واحدة، وسعي كل فريق إلى تعزيز قدراته العسكرية، وإلى تأمين دعم خارجي له، بما يشبه الاستعداد المُسبق لأي طارئ قد يزيح هذا الطرف أو ذاك، فكان الحال أشبه بصراع الصبيان.

انتهت الفترة الانتقالية - الانتقامية بحدوث الانتخابات التشريعية الأولى لدولة الوحدة 27 أبريل 1993م، بلغ الصراع بعد إعلان نتيجتها مداه، أحس أحد شركاء الإنجاز بهزيمة شبه مدوية أمام خيار الديمقراطية الذي كان محل رضاه، لتدخل منظومة الحكم مرحلة ائتلاف ثلاثي لم تدم طويلًا، برز فيها طرف ثالث تقليدي (الإصلاح) لم ينضج بعد، عادت الأيدلوجيا لتطغى على المصلحة، وحضرت صراعات الماضي غير البعيد، وغابت الوحدة التي كانت حتى الأمس القريب تَجبُ ما قبلها.

ظل حُكام صنعاء ظلوا يترقبون عودة البيض للتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، وحين لم يعد؛ ذهبوا إلى الأردن، ووقعوا بوجوه واجمة - ذات مساء رمضاني - على بنودها 20 فبراير 1994م، بعد تلكؤ شديد من قبلهم، وإصرار كبير من قبل الحزب الاشتراكي.

تبادل الطرفان أثناء مراسم التوقيع الاتهامات، ولم يمد صالح يده لمصافحة البيض، لولا أنَّ الملك حسين بن طلال دفعه خجلًا إلى ذلك، غادرا الرجلان عمَّان بروح مشحونة، وعداء أشد، وحقد أعمق، وعادا بعد زيارات محدودة لبعض دول الجوار كلٌ إلى عاصمته.

كل المُؤشرات حينها كانت تؤكد أنَّ الحرب قادمة؛ فـصالح لم يكن قادرًا على تنفيذ الوثيقة؛ كونها في اعتقاده تهدف إلى تفكيك قواه، وخلق صراع بينه وبين حلفائه، في حين بدأ البيض وقلة من أعضاء الحزب الاشتراكي يمهدون للانفصال، بدعم وتحفيز كبيرين من قبل السعودية وبعض دول الخليج؛ بذرائع واهية، منها استحالة التعايش مع القوى السياسية في الشمال، وأنَّ الاستمرار في الوحدة الاندماجية سيؤدي إلى التخلص منهم نهائيًا.

لم تصدق حينها النوايا؛ فانفجر الموقف، واشتعلت الحرب الشاملة مساء يوم الأربعاء 4 مايو 1994م، ورغم الدعم المهول الذي حظي به الحزب الاشتراكي من السعودية والإمارات؛ حسم صالح المعركة لصالحه خلال 65 يومًا، مُخيبًا توقعات المُحللين العسكريين، وصار بذلك الحاكم الأوحد، وبيده مَقاليد كل شيء.

انتجت حرب صيف 1994م طرفًا سياسيًا يريد الانتقام، ويسعى للثأر، لتأتي الانتكاسات الاقتصادية المُتلاحقة وترفع من وتيرة ذلك الشعور، وكرد فعل على ذلك؛ أسس العميد المتقاعد ناصر علي النوبة الحراك الجنوبي، وقاد ورفاقه في منتصف العام 2007م عدة مسيرات مطلبية، كانت في البداية احتجاجًا على إخفاق الحكومة في مُعالجة أوضاع المتضررين.

تحولت القضية الجنوبية بفعل التحركات الميدانية إلى مشروع مُسيطر، يمسك بزمامه أكثر من طرف، واتجه الحراك الجنوبي بشكل مُطَّرد، وبفعل سياسات النظام الخاطئة نحو التجذّر والاستقواء بالداخل والخارج، ووصل إلى أقصى درجات الخطورة بتجاوزه ذلك التأطير المطلبي إلى رفع شعارات انفصالية ذات بعد مناطقي مقيت، واستهداف مُباشر ومقصود لممتلكات مواطنين شماليين، وهكذا صار البعد الانفصالي جليًا تحت مسمى (الجنوب العربي)، وهي تسمية انجليزية صرفة، لم أجد لها ذكرًا في كتب التاريخ إلا في المراجع التي وثقت للسنوات الأخيرة للاحتلال البريطاني لجنوب اليمن.

كان الحراكيون ينظرون للبيض على أنَّه بطل قضيتهم في المنفى، يرفعون صوره في مسيراتهم كرئيس لجمهوريتهم المُستلبة، استغل الأخير ذلك، وغادر عُمان، وعاود الظهور بدعم من جمهورية إيران، رافعًا شعار فك الارتباط 21 مايو 2009م، مطالبًا دول العالم بتأييد مطالبه، ولم تكد تمضى سنوات معدودة على ظهوره اللافت ذاك، حتى خفت ذكره؛ وتلاشت طموحاته مع بروز قيادات جنوبية جديدة مدعومة ومَفروضة من قبل داعميه بالأمس (السعودية، والإمارات)، الذين انتهجوا - هذه المرة - سياسة النفس الطويل، وهي سياسة استحواذية مضمونها الانفصال - أو بمعنى أصح تقسيم الجنوب - بشكل مرحلي؛ كي لا يتحد الفرقاء في اليمن حول خيار الوحدة كما اتحدوا من قبل.

مُقابل تلك النزعة الانفصالية المتُطرفة ظهر من يرى أنَّ القضية الجنوبية حقيقية غير مُفتعلة، وأنَّ حلها الجذري والسريع ذو أهمية لما له من حيوية وطنية تخدم قضية الوحدة برمتها، بما تحتاجه من حلول سياسية شاملة تؤدي إلى إصلاح مسار الوحدة، وإزالة آثار حرب صيف 1994م، وتقود إلى الاندماج الوطني في سياق المصالحة والتسامح، بآفاق وطنية شاملة، وفي إطار مشروع للإصلاح السياسي والوطني الشامل، وبالفعل تمت مناقشة بقاء الوحدة فوق طاولة مؤتمر الحوار الوطني، على اعتبار أن ليس لديها من خيار سوى الاستمرار.

في غمرة انشغال الأطراف المعنية اليمنية بالحوار، وصياغة دستور اليمن الجديد، تسلل الإماميون الجدد، وقادوا جحافلهم المُتوحشة للقضاء على الجمهورية اليمنية، وهي لم تحقق أهدافها المُعلنة بعد، وبدعم كبير من قبل حُثالة العرب وإيران، وهو الأمر الذي أربك المشهد، وأدخل اليمن واليمنيين في دوامة مُنهكة لم يخرجوا منها حتى اللحظة.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد