مرت حتى الآن تسعُ سنوات من الحصار الذي تفرضه جماعة الحوثي الانقلابية على محافظة تعز، وعلى مدينة تعز (عاصمة المحافظة) على وجه الخصوص، حيث يعاني نحو 700 ألف إنسان في المدينة من حصار خانق قطَّع أوصالها، وباعد بين أحيائها وتحول معه الانتقال بين هذه الأحياء إلى رحلةٍ طويلةٍ وشاقة ومكلفة مادياً وجسدياً، في تكثيفٍ قاسٍ لمأساة الحرب وآثارها، واجتماع نادر للأعداء المتشاكسين على ضحية واحدة هي تعز التي تعد أكثر من 6 ملايين نسمة وتطل على جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
هذه المرة أثار اهتمامي الاحتفال واسع الناطق الذي تقدَّمَهُ رئيسُ مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، وشاركت فيه رئاساتُ البرلمان والشورى والوزراء، والقيادات الحزبية والناشطون، والكتاب والإعلاميون وقطاع واسع من المؤثرين في فضاء التواصل الاجتماعي. ولفت نظري أكثر الإشارات الخجولة إلى إمكانيات اعتماد الخيار العسكري لفك الحصار المفروض على تعز، رغم أنه لا شيء يستحق الاهتمام أكثر من هذا الخيار الذي يعد واجباً مستحقاً لإنهاء الحصار وكافة الممارسات العنيفة والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، والعمليات الإرهابية التي تطال المدنيين والأطفال النساء عبر عمليات قنص لا تتوقف.
ولا شيء يثير الريبة أكثر من هذه الحملات التي تُظهر أن السلطة الشرعية والمرتبطين بها قد أدّوا واجبهم تجاه تعز، وانتصروا لها بالكتابات والهاشتاجات، والأسوأ أنهم يساهمون في تكريس وضع تعز كقضية إنسانية محضة، ويوكلون أمر إنهاء مأساتها إلى النوايا الحسنة للحوثيين، وربما إلى الضغوطات التي قد يمارسها مجتمع دولي كان ولا يزال جزءا أصيلاً في المؤامرة التي تعرضت لها تعز منذ أكثر من اثني عشر عاماً، ليساهم في إنهاء مأساة المدينة.
إن أهم ما تحتاجه تعز هو كسر الحصار، وهذا الأمر يحتاج إلى تحركين أساسيين:
الأول: أن تبدي القوة التي أنشأها التحالف في جنوب البحر الأحمر بقيادة عضو مجلس لقيادة الرئاسي العميد طارق صالح؛ الاستعداد لتتحول إلى ظهير بلا قيود ولا شروط لمعركة تحرير تعز من الحصار الحوثي.
الثاني: أن تتحول مدينة وميناء المخا وباب المندب إلى منافذ حرة لتدفق البضائع وحركة الناس، والتعويض عن طرق الإذلال التي يتعرض لها أبناء تعز، وأن تستثمر السلطة الشرعية في بناء الطرقات التي تحقق هذا الغرض وأن تستثمر في تعزيز البنية التحية لميناء ومطار المخا.
لقد تعرضت تعز لمؤامرة إقليمية ودولية ولا أبالغ في ذلك، فقد كان الجهد الثوري لأبنائها مثيراً للقلق من أولئك الذين خططوا لإيصال الحوثيين إلى السلطة في صنعاء؛ بما هم جماعة طائفية تمتلك من المؤهلات العقائدية ومن الحقد والضغينة ما يكفي ويزيد، لتخوض استناداً لها معركة صفرية مع الغالبية العظمى للشعب اليمني المختلف معها مذهبياً.
وزد على ذلك أن التقديرات الأمنية لأجهزة صالح الاستخبارية، حرصت على بناء سردية معادية مفادها أن تعز تقع في قبضة الإصلاح، وتوسع الأمر ليطال أبناءها في مهاجرهم. وإذا دققنا النظر فإننا سنجد المغالطة واضحة، إذ أن الإصلاح كان يتقاسم السلطة مع حزب المؤتمر الشعبي العام على مستوى اليمن، وكان كتلة سياسة مرنة لكنها صلبة من الناحية التنظيمية، وتأثيرها في تعز لا يختلف كثيراً عن تأثيرها في بقية المحافظات.
لهذا لم يكن الإصلاح سوى ذريعة، فقد كان الخوف من تعز بكل مكوناتها السياسية وليس فقط من الإصلاح، هو الدافع وراء احتوائها وتعطيل جهدها الثوري الوطني العظيم، فهي مرجلٌ حقيقيٌ للأحزاب والانتماءات المدنية الحضارية، وكان التغيير محصلة جهد مشترك لا ينتقص من حق أي حزب أو تنظيم ومن جهد شبابه الكبير في هذه المحافظة.
والحقيقة أن تعز لم يضعفها أكثر من التشتت الذي ضَرب منظومتها الحزبية المدنية، بعد الانقلاب على السلطة الانتقالية في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، وبعد التدخل العسكري للتحالف العربي في اليمن، عندما اعتقد بعض الأحزاب والتنظيمات السياسية أن الوقت قد حان لبناء نفوذ غير قابل للمنافسة؛ وخصوصاً من قبل الإصلاح الذي استطاع بالفعل أن يتصدر المشهد المدني والعسكري في تعز، والأمر يعود إلى قدرته التنظيمية وانضباط أعضائه واستعدادهم للتضحية، لا أكثر.
لا تعاني تعز من نقص في المقاتلين ولا الإرادة في التخلص من الوضع المأساوي الذي تعانيه، ولكنها تعاني من شتات الإرادات ومن قلة في الإمكانيات المادية التي تضمن خوض معركة تحرير ناجحة لأكبر كتلة سكانية في البلاد، بقيت منزوعة السلاح لعقود من الزمن، وهو العقاب الذي فرضته السلطة الجهوية في صنعاء منذ نهاية الستينيات.
لقد تعرضت تعز ليس فقط لنزع السلاح، بل تعرض أبناؤها لحرمان شامل من الانخراط في الحياة العامة والعسكرية والأمنية على وجه الخصوص، إلا ضمن قيود صارمة، ورقابة شديدة على انتماءاتهم السياسية ومواقفهم وأنشطتهم، وهو عقاب واجهته هذه المحافظة بعد أن اضطلع عساكرُها المحترفون بدور بارز في بناء وقيادة أحدث وحدات القوات المسلحة الجمهورية، وفي خوض معركة الدفاع عن صنعاء وكسر حصارها، وفرض خيار الجمهورية أمام تحالف إقليمي ودولي كبير كان قد تجمع لإعادة فرض الإمامة بعد ثورة السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1962.
كان يُراد لتعز أن تكون ضمن صفقة الانقلاب، وأن تخضع لنفوذ جماعة الحوثي دون قتال. كان الانقلابيون ومن يساندهم في الخفاء يعتقدون أن تعز المنزوعة السلاح لن تقاوم ولن تكون قادرة على إحداث تحوّل حقيقي في المسار العسكري كما هو الحال في المسار الثوري السلمي، غير أن هذه التوقعات سقطت أمام إرادة ثوار التغيير الذي قرروا المواجهة بالحد الأدنى من الإمكانيات، ونجحوا، وتحوّل قائد المقاومة في تعز الشيخ حمود المخلافي إلى رمز وطني كبير.
وكان لصمود تعز أثره في إلهام الجبهات الرئيسية الأخرى لتقف في وجه الانقلاب وتكبح جماحه، قبل أن تتحول إلى هدف غير معلن لأكبر تدخلا عسكريا عربيا في تاريخ المنطقة.
*عربي 21