منذ يومين يتواجد في العاصمة صنعاء وفد عُماني في زيارة هي العاشرة من نوعها خلال ثلاثة أعوام، في تأكيد لا يقبل الشك على محورية الوساطة العمانية، لكن الزيارة هذه المرة محاطة بقدر كبير من الشكوك في جدواها من جانب المراقبين، إلى جانب أنها تفتقد إلى الزخم الذي حظيت به الزيارة قبل الأخيرة للوفد برفقة سفير السعودية لدى اليمن محمد آل جابر لصنعاء، والتي أعطت انطباعاً بأن السلام على مرمى حجر من اليمنيين.
فلماذا تتجدد هذه الزيارة؟ سؤال يعيدنا إلى مبررات الدور اللافت لسلطنة عمان في الأزمة والحرب، والذي يتأسس إلى علاقاتها الوطيدة بإيران، وتفويضها من قبل المجتمع الدولي لتكون نقطة اتصال بين أطراف الأزمة اليمنية.
وغالباً ما تُستدعى الوساطة العمانية، بدفع من الأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي ومن الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وتتم عقب زيارات يقوم بها المبعوثان الأمريكي والأممي إلى المنطقة. كما أنها تتحقق في اللحظة التي يتجه فيها الوضع نحو تصعيد لا يرغب به المجتمع الدولي، في متوالية تبدأ بالتهديد اللفظي من قبل جماعة الحوثي الانقلابية بالتصعيد العسكري العابر للحدود، تليه تحركات للتهدئة يتم من خلالها تمرير مطالب تراكمية للجماعة تعزز بها قبضتها الميدانية وسطوتها على الكتلة السكانية الأكبر في اليمن.
وفي حين تكشف التغريدات العائدة لقيادات في جماعة الحوثي على خلفية زيارة الوفد العماني، عن حجم التطمينات التي منحتها الرياض لهذه الجماعة في السابق، خصوصاً بعد زيارة سفيرها لصنعاء محمد آل جابر، فإنها تُبقي على المستوى ذاته من خيبة الأمل لدى هذه القيادات من أن السعودية ربما تبيع لجماعتهم كلاماً لا أقل ولا أكثر، وهو تكتيك يفتقد إلى الألق في ظل التطورات المتسارعة على خط العلاقات السعودية الإيرانية، إذ تتزامن زيارة الوفد العماني مع زيارة لوزير الخارجية الإيراني للرياض.
لذلك ستبقى تهديدات قيادات جماعة الحوثي، ضمن حدود المناورة السياسية التي تمارسها الجماعة، ورغبتها كذلك في استمرار تعريض الموقف السعودي لضغوط قوية وصولاً إلى الحد الأعلى مما تطمح إليه هذه الجماعة، وهو الحصول على صفقة متكاملة من المزايا السياسية والعسكرية والجيوسياسية، التي تنتهي بالتحييد النهائي للسلطة الشرعية، وإفساح المجال لبقية قوى الأمر الواقع لتتنازع النفوذ تأسيساً على مشاريع من السابق لأوانه التعاطي مع مشروعيتها على المستوى الدولي، وهي وصفة لتكريس الفشل المُسيطَر عليه في اليمن لأطول فترة ممكنة، وهو ذات الهدف الذي تتشاركه كل الأطراف الخارجية والداخلية المتربصة بالدولة اليمنية.
إن عودة الوفد العماني إلى صنعاء بدون السفير السعودي، تشير في إحدى دلالاتها إلى أن جزءا من مهمة الوفد ربما تهدف إلى استعادة التفاهمات بين الرياض والحوثيين، وتكريس المسار التفاوضي باعتباره تعاطيا ثنائيا حصريا بين الجماعة الانقلابية والرياض، وحصر التفاهمات ضمن الملف الإنساني، بما لا يترتب عليها أي استحقاق يمكنه أن يسلب صلاحيات الدولة التي استحوذت عليها جماعة الحوثي، وإعادتها طرفاً من الأطراف التي تتفاوض حول إنهاء الحرب وإعادة الاستقرار وفق المرجعيات المعتبرة.
وتأسيساً على هذا الفهم فإن الوفد العماني سوف يعود خالي الوفاض على الأرجح، ولن يتمكن من التوصل إلى تفاهمات لعقد الاتفاق الذي بشَّرتْ به بعض قيادات جماعة الحوثي مع الرياض، لأن السعودية تريد أن تحصد مقابل المزايا التي منحتها لجماعة الحوثي خلال الفترة الماضية، اعترافاً من هذه الأخيرة، بدور أبوي للمملكة في الأزمة اليمنية، بحيث تكون نهاية الأزمة مرهونة بمباحثات تلعب فيها الأمم المتحدة دوراً تنسيقياً، وتستأثر فيها الرياض بالدور الحاسم، استناداً إلى مبررات عديدة يمكن أن يتفهمها المجتمع الدولي، ومن بينها أنها القوة الإقليمية الكبرى الضالعة بشكل رئيس في إدارة الأزمة اليمنية، والأكثر تأثراً بما يجري في اليمن، مما يتعين الأخذ بعين الاعتبار مصالح المملكة كأولوية في أية تسوية، وما من تسوية يمكن أن تلعب فيها السعودية دوراً حاسماً يمكن أن تنجز وفقاً لمعايير الأمم المتحدة، بل عبر مبادرة تحضر فيها الأعراف والتقاليد أكثر من أي شيء آخر.
وربما يحسن التذكير هنا بأن موقف السعودية لا يبدو، كما يتمنى الحوثيون، عرضة سهلة للابتزاز من قبلهم، لأن جماعة الحوثي تكاد تغرق عملياً في المزايا التي حصلت عليها طيلة السنوات الماضية، تحت أنظار ملايين الجوعى والمعدمين، الرازحين تحت سلطتها، وأنتجت طبقة حاكمة متخمة ومتسلطة ومتجبرة وعنيفة ومستأثرة بكل مقدرات اليمنيين.
فخلال الفترة الماضية راكمت جماعة الحوثي ثروة مالية كبيرة جداً بعد أن أفسحت لها التنازلات المقدمة من السلطة الشرعية بضغط من الرياض؛ فرصة ثمينة لتأمين مصادر دخل مهمة من ميناء الحديدة الذي بات يستقبل معظم الواردات التجارية، واعتمادها على المشتقات النفطية القادمة من إيران والإفادة من عوائد بيعها بأسعار مرتفعة، بالإضافة إلى العوائد النقدية بالعملة الصعبة من المغتربين في الخارج وعائدا قطاع الاتصالات، في وقت تعالت فيه أصوات أطراف أساسية في سلطة الأمر الواقع تطالب القيادة الفئوية والطائفية لهذه السلطة بالإفراج المليارات المخبئة في الأقبية لصرف مرتبات مئات آلاف الموظفين المعدمين، وإنقاذ الملايين من الجوعى والمرضى واليائسين.
من الواضح أن الضغط الذي يتنامى ضد جماعة الحوثي، ويهدد بتقويض سلطتها من الداخل على وقع غضب مكبوت ورفض شامل لوجودها على رأس سلطة مفروضة بالقوة على اليمنيين في صنعاء، هو الذي دفع قيادة الجماعة لإعادة تصدير هذا الاحتقان نحو الخارج، عبر إظهار براءة الجماعة مما آلت إليه الأمور في صنعاء وبقية المدن والقرى الرازحة تحت سيطرتها، وإظهار الأمر كما لو كان محصلة "الحصار الشامل" المزعوم المفروض من قبل التحالف، وهي مزاعم لم يعد يصدقها اليمنيون بعد الانفراجة الكبيرة التي تحققت منذ نحو عامين.
ذلك يعني أن الخيار العسكري الذي تلوح به جماعة الحوثي ليل نهار وإمكانية الإقدام عليه إن على المستوى الداخلي أو عبر الحدود، ليس إلا مغامرة مهلكة، إذ لم يعد لد الجماعة ما يكفي من الشعارات المقنعة لتصديرها إلى الناس، الذين ينتظرون لحظة الخلاص من هذه الجماعة على أحر من الجمر.
* عربي 21