من على شاطئ صيرة الصخري ظل يرقب البحر في مده وجزره، في سكونه وصخبه:
١- يمد البصر إلى الأفق البعيد فيرى السفن تمخر عباب الماء في طريقها إلى بلاد الله، في غدّوٍ ورواح لا يتوقفان، فلا يرى بلداً أجمل من هذا البلد الذي وهبه الخالق بحراً ينضح بتلك الحيوية وتلك النضارة.. ثم يفكر، ويمعن التفكير، في كيف أن هذه الجغرافيا الرائعة ظلت في حاجة ماسة لعقل يبدع في تحويلها إلى وطن يتنافس فيه المبدعون والمبشرون بأحلام تُستولد من حقيقة أن الأرض يرثها الصالحون ممن يمتلكون خيالاً تتحرك معه عجلة الحياة لتلتحم بقاطرة العصر.
٢-يمتّع ناظريه بمشاهدة قوارب الصيادين وهي تفد إلى الشاطئ بحمولات ثقيلة من الأسماك التي ما إن يتم تفريغها في الأحواض المخصصة لحفظها حتى يتوافد نحوها سماسرة السمك في صخب ومراوغة لا يجيدها أحد غيرهم؛ بمفردهم يقررون مصير هذا السمك الذي يفرز بطريقة تُغْتصب فيها الطبيعة لصالح الأثرياء، أما الفقراء فعليهم أن ينتظروا ما يخلفه المزاد من بقايا أسماك معفرة بالطحالب. كان وهو يشاهد ذلك، يذهب خياله مستعرضاً ثروات هذا البلد التي نهبت بواسطة سماسرة كبار، وكيف أن سنوات من الضياع مكنت لصوص الثروات من أن يشعلوا الحروب والحرائق ويصنعوا من أدخنتها ستاراً لجرائمهم.
٣- يحملق بعينين دامعتين نحو غيمة راحت تحلق فوق قلعة صيرة، ثم مرت سريعاً لتصطدم بريح معاكسة أخذت تشتتها وتمزقها نتفاً صغيرة حتى تباعدت بينها المسافات، فيفكر في الثورات التي ما إن تبدأ تمطر حتى تعصف بها الأنواء التي تثيرها رياح الصراعات قبل أن تمتد جذورها إلى قاع الأرض.
٤- يتفحص وجوه الناس الذين يرتادون البحر في تلك الساعة المتأخرة من النهار فيلاحظ كيف أن قسوة الأيام أخذت تستنزف النظارة من على وجوهٍ هاجمتها الشيخوخة مبكراً ، وأخذت تزرع على محياها الوجوم والقلق ، وكيف أنها راحت تستعجل اليأس لتفصح عن معاناة تستطيع أن تدرك معها للتو أن عبق البحر الذي يملأ المكان ، وقد اختلط بروائح الأمكنة القديمة وذكريات الأمس التي تجسدها نقوش الجدران والعبارات المخطوطة فوق الألواح الخشبية التي أقيمت على هيئة حواجز لمنع الحيوانات من الدخول إلى البحر ، قد نكش جروحاً كان يبدو أنها قد اندملت ، وأثار الكثير من الشجون .
توجه نحو شخص اتخذ مكاناً قصياً، وراح يقرأ في جريدة قديمة.. كانت عيناه بين الحين والآخر تزوغ نحو البحر، ثم يرتد بصره في حسرة نحو الجريدة. ظل هذا المشهد يتكرر، فقرر أن يتقدم نحوه حتى أصبح بمحاذاته لدرجة أصبح فيها قادراً على قراءة الصحيفة. كان العنوان الرئيسي فيها: قائمة بأسماء ضحايا الخصخصة والمقالين من أعمالهم والمحالين على المعاش لأسباب سياسية منذ عام ١٩٩٤.
سأله:
-هل اسمك من بين الأسماء؟
-نعم .
-ما هو الهدف من نشر الأسماء؟
-في البداية قالوا دفع تعويضات عن سنوات التوقيف من العمل وقطع الرواتب، ومعالجة جزء من الضرر الذي ألحق بالآلاف من العمال والموظفين والجنود الذي خدموا في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حتى حرب ١٩٩٤، ثم عادوا وقالوا إنهم كلفوا الجهات المختصة بتسوية المعاشات، وإلى الآن لم يرس على بر.
-أين كنت تعمل ؟
-كنت مهندس آلة الإنتاج في مصنع من المصانع التي تم تفكيكها ونقلها إلى دولة مجاورة بحجة أنها حرام.
-ما الذي حدث للمصنع ؟
-أثناء حرب ١٩٩٤ أشاعوا أنهم أحرقوا المصنع، والحقيقة أن الحريق كان مجرد خدعة، ألحق الحريق الضرر ببعض المستودعات فقط، أما المصنع فقد جرى تفكيكه، وتم نقله وتركيبه في بلد مجاور . منذ ذلك الوقت عملت في ورش للخراطة، وتقطعت بي السبل بعد أن تعثرت جهودي في الحصول على عمل يليق بمكانتي العلمية والاجتماعية.. لم تكتف الحياة بهذا القدر من الإذلال، وها نحن كما ترى في انتظار المعاش. لم يبق من معاني الانتظار الطويل سوى تمسكنا بمعرفة مصير الوجه الآخر لحياة جزأت أحلامنا، وأخذت تنهشها حتى صارت بحجم المعاش الضئيل الذي ننتظر إطلاقه.
٥-ألا ترى أن الوجه الآخر للحياة الذي تتحدث عنه قد وسع مساحة الأحلام المهدرة والمجزأة لتشمل المجتمع بأكمله؟
-نعم، هكذا تبدو مأساتنا كما لو أنها قد غدت جزءاً من مأساة أشمل، لكن هل كان علينا أن نعاقَب وأن نِذل كل هذه السنين ليصل حال الجميع إلى مثل حالنا!! ورغم ذلك دعني أقول لك هذه المقاربة التي خلصت إليها وهي أن الأسلوب التعسفي الذي عوملنا به كان بداية الانزلاق نحو هذه النتيجة.