معركة غزة تكتسب طابعها الكوني من هذا الاشتباك الذي يحتدم فوق هذه البقعة الجغرافية الصغيرة من العالم لتتحول من سجن مفتوح إلى ساحة صراع تتساقط فيها كل القيم والمثل التي التصقت بالنظام العالمي ذي الصبغة الليبرالية التعددية.
أسس الغرب ومعه إسرائيل سردية العدوان الغاشم ضد قطاع غزة، على ادعاء باطل يصم حركة حماس بأنها منظمة إرهابية، مما يجعل استهداف عناصرها بين حشد مكتظ يضم ملايين البشر، أمراً مباحاً، حتى لو تم عبر حرب إبادة مكتملة الأركان كالتي نراها ويراها العالم بأم عينه كل لحظة في قطاع غزة.
اتحد الغرب بأطيافه السياسة والأيديولوجية بمن في ذلك مجتمع الميم خلف معركة الإبادة التي تنفذها إسرائيل في قطاع غزة بمشاركة لوجستية وتقنية وبشرية عملياتية أمريكية، وهدفهم واحد صارم كحد السيف وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل والمجازر التي ترتكب ضد المدنيين.
لا يتعلق الأمر بالحرص على أمن الكيان الصهيوني، من طوفان أقصى جديد بل تصفية القضية الفلسطينية وإعادتها إلى مرحلة من الجمود الذي لا تتحرك فيه سوى الأجندة الاستيطانية حيث يواصل الإسرائيليون تنفيذها بخطى متسارعة ليستحيل معها إقامة دولة فلسطينية على أرض يملأها مستوطنون متطرفون مدججون بالسلاح.
الغرب لا يكتفي بالمشاركة المادية والمعنوية في دعم حلفائه الصهاينة بل يجازف في تقويض مناخ السلام الذي جعل من أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية واحة سلام وملاذاً للطامحين إلى حياة أفضل، ولكوادر تغطي حاجة المصانع الأوروبية إلى رصيد ديموغرافي متجدد تؤمنه الهجرات العشوائية والمنظمة إلى الغرب.
التهديد بإنزال العقوبات القاسية والتضييق على حقوق المهاجرين وتهديدهم بالطرد وبالحرمان من الحصول على الجنسية والاستهداف العقائدي المباشر للمسلمين كل ذلك يظهر دول الغرب إما أنها لا تزال مسكونة بروحها الصليبية العدوانية أو أنها باتت محكومة بإرادة العصبة العالمية العابرة للدول والتي تمتلك قدرة جبارة على تحريك القوة الغربية نحو هدف واحد وتبني نبرة خطاب موحد، أو أنها محكومة بهذا وذاك.
معركة غزة تحدث أثرا عميقا في البنيان الغربي وتعيد تشكيله بقوة الدفع الشعبية الهائلة التي تتحرك في ساحات وشوارع المدن الغربية وهي المسيرات التي أظهرت ساسة الغرب مجرد منافقين ومتعصبين ويمارسون الخداع والكذب على شعوبهم وناخبيهم.
الحزب الديمقراطي الحاكم في أمريكا يواجه تحدي إعادة انتخاب الرئيس بايدن بعد انحيازه النازي المقيت لمعارك الإبادة في غزة.
لكن لماذا لم يتكون حلف عربي إسلامي للدفاع عن غزة؟
سؤال الإجابة عليه ليست سهلة، لأن العرب والمسلمين ليسوا مستعدين بعد للاتحاد حول القضايا المبدئية استنادا إلى كينونتهم الحضارية وإمكانياتهم المادية وموقعهم الجغرافي، فهم موزعون على أحلاف النصف الثاني من القرن العشرين وترتيبات ما بعد الحرب على العراق والتداعيات القوية للربيع العربي وللترتيبات والمعاهدات ثنائية التي أبرموها بشكل جماعي أو أحادي من أجل دفع التهديدات الجيوسياسية أو لتثبيت العروش أو لمقايضة تسخير الدول بالسلطة التي يصل إليها أشخاص ليسوا رجالا ولا قادة ولا وطنيين.
بعد الربيع العربي أبرمت الأنظمة التي تمتلك اليوم إمكانيات التأثير في حرب غزة صفقة تم بموجبها إنهاء الأثر السياسي لهذا الربيع مقابل التضييق على حوامله السياسية من أحزاب وحركات وتيارات، وكان التركيز منصباً على الإسلاميين وفي القلب منهم الإخوان المسلمون الذين تعتبر حركة حماس مشتقة منهم.
لذلك تورطت الأنظمة العربية المؤثرة في مشاركة الصهاينة والغرب موقفهم السياسي والأمني من حركة حماس ووصمها بالإرهاب، وهو توصيف بادرت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تفنيده بشجاعة وساهمت دولة قطر عمليا في إفراغه من مضمونه.
حدث ذلك بعد خروج هذه الأنظمة من معركة فاصلة مع شعوبها استمرت لنحو عقد من الزمن، وهزمت الربيع العربي.
وكانت الأنظمة العربية ويا للمفارقة قد وصفت ذلك الربيع بـ”العبري” في إيحاء لئيم استباحت به دماء شعوبها وصادرت إرادتهم، لترتمي بعد ذلك في أحضان الكيان الصهيوني ضمن صفقات شملت التطبيع وتصفير العداء والمساومة على الأراضي المقدسة والأقصى في فلسطين، وباشرت في تهيئة الظروف لتنفيذ صفقة القرن التي أفشلتها معركة طوفان الأقصى المباركة.