«كل عام وأنتم بخير» عبارة يقولها الناس مع مطلع كل عام جديد، وهي تشير إلى التمسك بالخير، بالحياة، بالحلم.
والحلم ليس له عمر محدد ولا مكان أو زمان أو ظروف محددة لانبثاقه وتحقيقه، يقول باولو كويلو: «يستطيع الناس فعل ما يحلمون به في أي وقت كان مهما تقدم بهم العمر».
يحتاج الحلم فقط أن نؤمن به بقوة، ثم ندع القلب يتبعه طول فترة الليل لينجلي الصبح عن الحلم وقد تحول إلى واقع، وبما أن حلم شخص ما قد تحقق فإن حلم شخص آخر سيتحقق. يقول براين تريسي: «إن أكبر دليل على أنك تستطيع فعل شيء ما هو أن شخصاً آخر قد حققه».
وفي خضم هذا العالم الذي يدعونا إلى اليأس كأفراد، ويدعونا لليأس كشعب وكأمة، فإن النفوس الكبيرة هي التي تمضي واثقة من قدرتها على تحقيق أحلامها، ومدركة أن المعيقات التي نواجهها في الطريق هي الشروط الموضوعية للنجاح، وهي المعالم الحقيقية التي تشير إلى أننا نمضي في الطريق الصحيح.
«كل عام وأنتم بخير» رغم نهاية العام على هذا «الهولوكوست الفلسطيني» الرهيب الذي صنعته إسرائيل في غزة، ورغم تحويل إيران أربعة بلدان عربية إلى منصات لإطلاق صواريخها وتجريب سلاحها الذي يهدف لغير أهدافنا ويرى غير أحلامنا، ورغم مجيء أمريكا «بخيلها ورجلها وأساطيلها» إلى عالمنا المشحون بالحروب والأسلحة والأنقاض وصراخ الأطفال، ورغم صراع الروس والأمريكان والشرق والغرب الذي يتمدد إلى أكثر من بقعة في العالم، رغم جشع الإنسان الذي يقوده إلى مصائر مرعبة حدثتنا عنها الكتب الدينية، وسجلتها النقوش والرقوم القديمة.
كل ما نشاهد اليوم يدعونا للتشاؤم، ولكن منطق التاريخ غريب أحياناً، إذ لا تولد الأحلام العظيمة إلا في قلب عالم ملأته الكوابيس، وهي حقيقة نجا من آمن بها، وهلك من سخر منها أو أنكرها، وإذا قلنا إن كل ما حولنا يدعونا للتشاؤم، فذلك لأننا لا نرى ـ أو لا نريد أن نرى ـ غير وجه واحد من وجوه هذا العالم المليء بالدهشة والأسرار.
ومع تعدد وجوه هذا العالم، ومع اكتنازه بالرؤى والأسرار، فليس أمامنا من سبيل إلا أن نحلم، لأن اللحظة التي حبسنا أنفسنا فيها ليست أبدية، ولأن الحال التي أصابتنا بالإحباط تزول، ولأننا نموت في اللحظة التي نتوقف فيها عن الحلم، حيث ينضب الخيال، وتنتحر القصائد وتموت اللوحات والسيمفونيات الخالدة.
المنجزات العظيمة قام بها حالمون كبار، والكوابيس الحقيقية هي مصانع الأحلام الكبيرة، ومن خرائب القصف الألماني على بريطانيا خرج تشرشل، ومن رحم الهزيمة ولد ديغول، ومن تحت أنقاض القنبلة الذرية خرجت اليابان الجديدة، ولو ذهبنا أبعد في التاريخ لوجدنا يتيماً فقيراً، لا يعد ـ بالمعايير المادية ـ من سادة القوم، كان يرعى الغنم ليكسب قوته، وكان محل سخرية سادة بلدته، رأيناه يوماً يخرج من الصحراء ويصل إلى زوايا العالم الأربع، متسلحاً بالثقة بربه وروحه وإيمانه العميق بما تفجر في قلبه من وحي وإلهام، وهو اليوم ملء سمع وبصر العالم الذي سمع عن نبي عظيم اسمه محمد بن عبدالله.
وقبل محمد عليه السلام وبعده رأينا آلاف العظماء من ثقافات ولغات شتى يعبرون كوابيس واقعهم، وينطلقون وراء أحلامهم الكبيرة التي أصبحت واقعاً لا يزال يشهد لأرواحهم بالقوة، ولقلوبهم بالقدرة على اجتراح الأحلام.
كل هؤلاء ليسوا أبطال روايات، أو شخصيات وجدت في كتب الملاحم الأسطورية، ولكنهم أشخاص حقيقيون رأوا أحلامهم تلوح في الأفق البعيد، وسافروا إليها ولم ينتظروا أن تطرق هي عليهم الباب، لأن الأحلام الحقيقية هي تلك التي نسافر نحن إليها، ونحن في يقظتنا التامة، على عكس الأحلام التي تتسلل إلى دواخلنا ونحن في السبات العميق، وإن كانت بعض المنامات تشكل نافذة نحو غيب الأحلام المستقبلية تستشفها الشخصيات التي تظل أرواحها يقظة لحظة نوم الأجساد.
مرة قال شاعر فلسطيني قولة شهيرة: «قف على ناصية الحلم وقاتل» قالها محمود درويش وهو يعلم أن معارك الإنسان الكبيرة في الحياة تحتاج إلى أحلام، وأي معركة لا تكون وراءها أحلام عظيمة يكون مصيرها محسوماً سلفا، وأي شخص جف خياله، وتعفن قلبه، فإنه ينتهي إلى هاوية سحيقة مليئة باليأس والتشاؤم والإحباط.
واليوم، ومع ما يجري في وطننا العربي يراد لنا أن نيأس، أن نتخلى عن ثوابتنا الدينية والقومية، وأن نتنكر لما كنا نؤمن به من قيم وما تعلقنا به من طموحات وأحلام. واحد من أهداف ما يجري على أرضنا العربية يدور حول تحويلنا إلى شعوب بلا أحلام، شعوب تنتشر في قلوب أبنائها الخرائب التي ضربت حواضر حضارتنا العربية الإسلامية في حلب وحمص وبغداد وتعز، وعندما نتحول إلى كائنات بلا أحلام فتلك هي الوصفة السحرية لبقائنا الطويل تحت الأنقاض التي تملأ شوارع مدننا التي يراد لها أن تسكنها الأشباح، وواحد من أهم أسباب النهوض من تحت الأنقاض هو أن نزيلها من أرواحنا قبل أن نحاول إزالتها من شوارعنا.
نحن بحاجة إلى استعادة توازن أرواحنا، وهذا التوازن شرط للتفكير الصحيح، والتفكير الصحيح شرط للحلول الناجحة التي هي المخرج الوحيد من هذه الدائرة المغلقة التي ندور فيها منذ عقود طويلة، بلا رؤى ولا طموحات، وتوازن الأرواح يتطلب أن نفتحها على أحلام كبيرة، شخصية وأسرية ووطنية وقومية وإنسانية.
الصورة ليست قاتمة، وحتى لو سلمنا بأنها كذلك فإنها لا تزال تسمح بنفاذ بعض الضوء اللازم للخروج من هذا النفق الطويل الذي يطول كلما تخيلنا طول مراحله.
يلزمنا قليل من البصيرة النافذة التي جعلت مدينة صغيرة ومحاصرة منذ سنوات طويلة تصمد وتتحدى أقوى جيوش الإقليم مدعوماً بأقوى جيوش العالم، وهو ما يعيد لنا الثقة في قدرتنا على المقاومة وصناعة الحياة من جديد.
إن غزة اليوم تقدم للعرب دروساً كثيرة، لكن أعظمها هو القدرة على الحلم، حلم الأرض والعودة والوطن والدولة وهزيمة الاحتلال.
ولأن غزة تجسد القوة الروحية للإنسان، ولأنها تمثل قيمه ومبادئه وإنسانيته، لأنها كل ذلك التفَّت حولها الشعوب، وهتفت باسمها كل الدنيا. ولأنها كذلك وهي المحاصرة اتسعت حدودها لتشمل العالم، واستطاعت أن تحاصر إسرائيل في كل مكان.
ابدؤوا عامكم بالأحلام الكبيرة، فإن غزة تقول لكم: «لا تتوقفوا عن متابعة أحلامكم» وتقول لكم إن الأحلام تصدق معكم إذا صدقتم معها، وتقول لكم: كل عام وأنتم بخير.
* القدس العربي