إرادة الرجولة، ورجولة الإرادة تحددان الهدف وتتابعان خطوات التنفيذ. فإذا العسر في متناول التنفيذ، وإذا المستحيل على طريق الإنجاز.
لم تكن غزوة العسرة " تبوك " نزهة، ولا معركة ثانوية، فقد استغرقت جزءا من شهر رجب، وكل شعبان، وبعضا من شهر رمضان؛ وذلك في العام التاسع من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقد أعد لها الرسول الكريم عدتها إيمانا، واصطفافا.
وإنما سميت بغزوة العُسرة؛ لبعد المسافة، وشحة الإمكانات مقابل القدرات والإمكانات الكبيرة للخصم، وأنها ستكون في عقر داره قريبة له مددا وتموينا، وجاءت متزامنة مع شدة القيظ وفصل الصيف، وموسم جني الثمار في المدينة.
كل تلك الصعاب تجاوزها المسلمون، وتركوها خلف ظهورهم حين استنفرهم الرسول -صلى الله عليه وسلّم- للجهاد؛ فلبوا مسرعين.
كانت الأنباء قد وردت إلى المدينة تحمل نية قيصر الروم لغزو المدينة، وأن طلائع جيشه قد وصلت بالفعل إلى البلقاء من الشام بانتظار تكامل الجيش.
نادى الرسول الكريم المسلمين للتهيؤ والاستعداد، وتنادى المنافقون للتخذيل والتثبيط: «لا تنفروا في الحر»، وراحوا يبلبلون ويرجفون: أتظنون أن قتال الروم كقتال العرب.. إلخ ما في جعبتهم من أراجيف.
وجاء طوفان الأقصى والحاخام مع قيصر قد اطمأنوا إلى نجاح مخططاتهم لوأد القضية الفلسطينية على حين خوَر وضعف ممن كان يفترض فيهم أن يكونوا القوادم في المواجهة، أو الخوافي- بلغة المتنبي- على أقل تقدير:
ولا تجعل الشورى عليك غَضَاضَة
فإن الخَــــــــوَافي قُـوَّة للقَــوادِم
وفيما عسكر النبي -صلى الله عليه وسلّم- في الجرف خارج المدينة المنورة كنقطة تجمع قبل الانطلاق، مضى عبدالله بن أبي رأس المنافقين يعسكر مع مناصريه في مكان آخر من المدينة، متظاهرا بحمل راية النضال بمشهد استعراضي ممجوج، فلما فصل الرسول -صلى الله عليه وسلّم- بالجيش منطلقا نحو هدفه؛ تبوك، عاد ابن أبي مع من تجمعوا حوله ممن هم على شاكلته إلى بيوتهم وانكشفت المسرحية التي لم يحسنوا إخراجها.
تجاوز طوفان الأقصى العسرة والمشقة، اقتداء بإخوة سبقوهم في عسرة مضت في سالف الدهر، وأسقط معطيات المستحيل، وفعل ما لم تستطعه الأوائل.
عَرّت غزوة العُسْرة صفحات المنافقين، وكشفتهم على حقيقتهم، وفضحتهم على الملأ، في حين رفعت الصـــادقين، والمجاهدين، والمنفقين، والمتطوعين بالصدقات، ويكفي المنفقين تبيانا لعظيم قدرهم، ما قاله النبي الكريم لعثمان بن عفان وما بذله لتجهيز جيش العسرة: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).
وكشفت معركة طوفان الأقصى صفحات مسؤولين، وأنظمة، ودولا، وقنوات، وإذاعات، وصحفا، وتجارا، ورجال أعمال.. وخُلع عنها كل ستر، وتعرت أمام الجميع. في حين رفعت قدر المجاهدين، والشهداء، والحاضنة المستعصية على التركيع، والقيادات التي تعمل تحت كل الظروف، وأحسب أن هناك أيد سخية كريمة تقية أبية سلكت مسلك عثمان من هنا وهناك؛ ليتولى الله جزاءها الجزاء الأوفى.
ومن منا لم يقف عند سخرية المنافقين بالمطوعين من المؤمنين في الصدقات، التي ذكرها الله يرفع بها من شأن المتصدقين:(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم)، وذلك أنهم لم يجدوا إلا شيئا من تمر يسير، فسخر المنافقون من ذلك، ألا يذكرنا هذا بموقف الحاج ربيع المصري الذي رمى قبل أيام ببضع حبات من البرتقال على سيارة تنقل مساعدات لغزة، في أصــــدق تعبير، وأبلغه للمواطن العربي الأصيل؟
وبورك في شعوب، ومجتمعات خرجت تندد بجرائم الكيان اللقيط، وتندد بمواقف دولها، وموقف المجتمع الدولي العاجز عن اتخاذ موقف تجاه حرب الإبادة التي ينفذها ذلك الكيان الهمجي.
لو أن مجتمعا خلا من النفاق لخلا مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلّم. أفنطمح اليوم بألا تتعرض معركة طوفان الأقصى لمثل تلك الأراجيف، والدعايات السوداء!؟
إن البطولات تكشف مواقف الجبناء، وإن الحقائق تفضح الأكاذيب، وإن المواقف المبدئية، تزري بالمداهنين وتعري المنبطحين، وبالتالي يلجأ هؤلاء لتسخير كل أبواقهم للإرجاف، وبث الدعايات السوداء، التي تحرقهم حاضرا ومستقبلا، وما يشعرون.
* الصحوة نت