عجزت عصبة الأمم التي تكونت عام 1919م، عن حل المشكلات الدولية، وأخفقت في فرض هيبتها على جميع الدول، وكان من مظاهر هذا الإخفاق سقوط حوالي سبعين مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية.
بعد انتهاء تلك الحرب العالمية في أعقاب جريمة هيروشيما ونغازاكي، انتقلت أصول وصلاحيات عصبة الأمم إلى هيئة دولية جديدة هي منظمة الأمم المتحدة عام 1945م، بهدف إدارة العلاقات الدولية ومنع العودة إلى الحروب، وهي المنظمة التي يعد مجلس الأمن أحد أبرز مؤسساتها، وتحظى فيه الدول الكبرى المنتصرة بعضوية دائمة وهي: أمريكا، والاتحاد السوفييتي، والصين، وبريطانيا، وفرنسا.
مثّلت المنظمة ركيزة النظام العالمي الجديد، والذي انقسم إلى كتلة غربية بزعامة الولايات المتحدة وأخرى شرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي، وعلى مدى عقود رسمت الحرب الباردة معالم هذا النظام، وقامت صراعات بالوكالة عن قطبي العالم: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
إلى وقت انتهاء هذه المرحلة من النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر بوضوح رجحان مدرسة الواقعية التي رأت أن العالم بعد تلك الحرب المدمرة لا تحكمه قواعد ولا قوانين، إلا ما يعبر منها عن مصالح الدول الكبرى بما يفتح المجال لنشوب الحروب والصراعات، خلافا للمدرسة المثالية التي روجت لأن العالم صار محكوما بقواعد دولية تمنع اندلاع الصراعات.
فمجلس الأمن الذي من المفترض أن يكون معنيا بإنهاء الصراعات، سيطرت عليه الدول المنتصرة في الحرب بصفتها دول دائمة العضوية لها حق الفيتو، ومن ثم لم يستطع المجلس اتخاذ قرار ملزم لأي من الدول الكبرى.
وبعد انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي الذي ورثته روسيا، دخل النظام العالمي في مرحلة القطب الأوحد، إذ قادت الولايات المتحدة هذا النظام العالمي، معلنة انتصار الديمقراطية الليبرالية التي انتهى عندها التاريخ وفقا لنظرية فرانسيس فوكوياما.
أمريكا زعيم هذا النظام الدولي، رفعت شعارات الحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان، لكنها أخفقت في تحسين وجهها القبيح، فنصّبت نفسها شرطي العالم الذي يؤدب الدول بعصاه الطويلة، وقادت تحالفا دوليا بسيطرتها على الناتو ضد دول عربية وإسلامية تحت مظلة مواجهة الإرهاب، دونما سند شرعي قانوني. وبلغت وقاحة هذا الشرطي إلى التبجح بالاعتراف بعدم العثور على أسلحة كيميائية في العراق، بعد أن دمره وجوّع أهله ومزّق شمله بحجة وجود هذه الأسلحة التي تمثل خطورة على عالمهم الحر المزعوم.
تتحرك الولايات المتحدة في سياق مواجهة النفوذ المتنامي لروسيا والصين، وهو المحدد الأساس في تحركاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
أخذت أمريكا التي تقود النظام العالمي على عاتقها مهمة الدعم اللامحدود للكيان الإسرائيلي اللقيط، وضربت بالقوانين والأعراف الدولية عرض الحائط من أجل الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي ورعاية مصالح الكيان الغاصب، واستخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن لعدم تمرير أي قرار يدين الكيان الصهيوني أو يتعارض مع مصالحه، يعاونها في ذلك شركاؤها في المنظومة الدولية وحلف الناتو.
وحتى يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول، كانت أمريكا تتمسك بقناع قيم العدل والحرية وحقوق الإنسان، وتحاول تحسين هذا الوجه القبيح، وتسلك مسلك المراوغة والخداع والمناورة والإيهام والتمويه نوعا ما، فعلى سبيل المثال كانت قبل هذا التوقيت تتعاطى مع القضية الفلسطينية بتصريحات التهدئة والحلول الدبلوماسية والسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لكنها منذ السابع من أكتوبر، نزعت هذا القناع، وصارت تؤيد الكيان الإسرائيلي على حساب قطاع غزة بشكل علني، وتعطل تمرير أي مشروع في مجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار أو إدانة الكيان الإسرائيلي، وتبارك وتؤيد استمرار الحرب على غزة وإبادتها بدعوى القضاء على المقاومة الفلسطينية.
بل لم يتوان قادة البيت الأبيض عن التصريح بتعاطفهم مع الكيان انطلاقا من يهوديتهم، والإعراب عن ضرورة وجود دولة إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة، وتبنت أمريكا الروايات الإسرائيلية المضللة في الحرب على غزة رغم وضوح زيفها وكذبها، تساندها انكلترا وفرنسا وغيرهما من الحلفاء.
الأمم المتحدة أثبتت أنها بمؤسساتها لا تقدم ولا تؤخر شيئا في مصائر الأمم والبلاد، لأنها صنيعة المنتصرين، وكل قرار فيها لابد وأن يتم بمباركة الدول العظمى، فيما عدا ذلك يعطل الفيتو أي قرار من شأنه أن ينصف مظلوما.
ويكفي في هذا، القول بأنه لم يحدث على مدى قرابة ثمانين عاما منذ تأسيس الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أي تغيير أو تعديل في العضوية الدائمة للدول الخمس الكبرى، إلا إذا اعتبرنا وراثة روسيا لعضوية الاتحاد السوفييتي بعد تفككه تغييرا.
أما محكمة العدل الدولية إحدى مؤسسات المنظمة، فإنها مقيدة، ومعظم قراراتها تكون على هيئة آراء استرشادية بناء على طلب مجلس الأمن.
صمود غزة ومقاومتها ترتب عليه إطالة أمد الحرب، ما دفع الولايات المتحدة قائد النظام العالمي لمزيد من الانتهاكات للقوانين والأعراف الدولية، وإلى مزيد من تحدي الشعوب العربية والإسلامية التي تقف عاجزة عن إنقاذ القطاع.
وفي الوقت الذي فُضحت زعيمة النظام العالمي فضيحة مدوية خلال تلك الحرب، تقتنص روسيا والصين – اللتان تطمعان في قمة النظام العالمي – الفرص المتاحة، لمزيد من مد النفوذ في منطقة الشرق الأوسط خاصة من خلال الشراكات الاقتصادية والظهور الدبلوماسي، ولعب دور أكثر حيوية في المناطق التي انسحبت منها أمريكا أو ضعف فيها نفوذها، مستغلتين لهذا السقوط لأمريكا وقيمها الليبرالية، سعيا الى تأسيس نظام عالمي ينهي حقبة القطب الأوحد، باتجاه نظام دولي متعدد الأقطاب.
لذلك يمكن القول إن معركة طوفان الأقصى التي طال أمدها، قد كشفت وفاة هذا النظام العالمي، والذي وُلد في الأصل ميتًا، بسبب ازدواجية معاييره وتناقضه التام مع القوانين والأعراف الدولية التي قام بوضعها.
من المرجح أن تُحدث هذه الحرب على المدى المنظور تغييرا في النظام الدولي وتؤدي إلى استحداث قواعد جديدة لإدارة العلاقات الدولية، لا تنفرد بها الولايات المتحدة الأمريكية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.