بين يدي الشهر الكريم يقف المسلم على شاطئ محيط لا حد له من فيوض الرحمن (وأن تصوموا خيرا لكم)، وخير الرحمن لا يُقاس قدرا، ولا حجما، ولا أمدا.. وإنما التي تقاس هي أعمال البشر.
ومع تذكر الفضل العظيم الذي يُسْبِله الله جل وعلا على عباده في هذا الشهر الكريم (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، نتذكر في هذا الشهر كثير من عبره، ودروسه وعظاته، ومواقف فيه.. وهي عديدة، وحسبنا أن نتذكر بعضها، فرمضان بفضل الله، ثري في عبره وفضائله إلى غير حد، ولك أن تقف عند الحديث القدسي متأملا، ومتلذذا بنعمه، ومُتَعَ ولذاذات ما يحويه من جزاء غير محدود، ولا مجذوذ: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به"!
إلى أين يذهب بك تفكيرك وتأملاتك عند "وأنا أجزي به"؟
لن أفسد عليك تأملاتك، ولست أهلا لأجيب، ولا أظن أحدا يدعي إعطاء الإجابة المطلقة.. لكن في النفس- لدى كل مسلم- ثقة واطمئنان ومعرفة بأن هناك جزاء لا حد له.
تعالوا نتذكر:
في العام الذي فرض فيه الصيام، كانت معركة بدر، وخرج الرسول المصطفى بـ 313 رجلا؛ لمواجهة ألف، كان وضع المسلمين ما يشرحه هذا الدعاء الذي دعاه الرسول صلى الله عليه وسلّم: " اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسُهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم".
فما منعهم ظرفهم ذاك أن يقوموا بمهمتهم، أو أن ينهضوا برسالتهم، فكانت ثمرة ذلك اليوم عطاء لايزال يؤتي أكله كل حين، تأسيا، واقتداء، وعبرا.
كانت معركة بدر أولى معارك الإسلام في مواجهة الطغيان، واستعلاء الإنسان على الإنسان، وفي محاولة من يريد أن يقسر الناس قسرا على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، مع ادعاء من الطغاة أنهم على الحق المبين.
فتعالوا نتذكر كيف أنتصر 313 مسلما على ألف ممن جندهم الطغاة في بدر !؟
لقد كان زادهم المادي مِيرةً وعتادا وعددا في غاية القلة، لكن زادهم الإيماني كان كبيرا، حتى قال أحدهم، وهو في قلب المعركة، وقد تناول تُميرات ليأكلهن، فسمع النبي (ص) يقول: " قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال هذا: "لئن عشت حتى آكل هذه التميرات إنها لحياة طويلة" فقذف بهن ومضى ببسالة وإقدام فكان أحد الشهداء.
أحسبك تقول: وتعال نشاهد طوفان الأقصى بإمكاناتهم المحدودة أيضا وكيف نفذوا ذلك الفعل العظيم، ووقفوا، ولايزالون يقفون الموقف الكبير، مع أن زادهم الحصار، وعتادهم متواضع، وعددهم أيضا.. لكن زادهم الإيماني راسخ وكبير، وأملهم بالله عظيم، فنحن نتذكر بدرا تاريخا، ونتذكر أبطال الطوفان حاضرا ماثلا، ومَن على طريقتهم في كل ميدان؛ يعيدونها فعالا، وينفذونها واقعا.
ويذكرن رمضان بغزوة تبوك، أو غزوة العسرة كما سماها القرآن الكريم التي امتدت إلى جزء من شهر رمضان، وقصتها ودروسها عظيمة في نتائجها، رائعة في مواقف جندها.
ما سنتذكره منها، أنه أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنورة، أتاه خبر مسجد الضرار، وكان أصحاب ذلك المسجد- من المنافقين- قد أتوا النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي العِلّة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، وإنا نحب أن تأتينا، فتصلي لنا فيه؛ فقال: إني على جَناح سفر، وحال شغل... ولو قد قدمنا -إن شاء الله- لأتيناكم، فصلينا لكم فيه.
فلما كان حين عودته صلى الله عليه وسلّم ونزل بذي أوان على مشارف المدينة المنورة، وأتاه خبر المسجد، دعا مالك بن الدُّخشم ومعن بن عدي.. فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحَرِّقاه... فأتَياه وفيه أهله فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين.
أراد المنافقون أن يعطوا لمسجد ضرراهم مشروعية فدعوا النبي الكريم للصلاة فيه، فأنزل الله حين رجوع الرسول من تبوك ما عزم عليه المنافقون من وراء بناء ذلك المسجد.
لاتزال منافذ ومواقع ومنابر ضرار يتبناها أمثالهم لصرف الأمة عن حقيقة دينها، وجرها إلى خارج أهدافها، وبعيدا عن رسالتها.
ويكفي أن نتأمل جيدا كيف فضح طوفان الأقصى مواقع، وإذاعات وقنوات وصحفا، وحتى مساجد، وبمجموعها مثلت موقف الضرار، حين راحت تشكك، أو تمالئ الصهاينة الغزاة، وهي ممولة بالأموال المدنسة؛ لبث الفرقة وإرصادا لمن يحارب الله ورسوله.
لقد أراد المنافقون على عهد رسول الله أن ينشروا أباطيلهم وخساستهم، وكيدهم تحت ستار مسجد يتخذون منه منطلقا لمكرهم الخبيث، فكشف الله زيغهم ونفاقهم.
فلنحذر ونحذر من مواقع وقنوات ومنابر، وصحف... الضلال والضرار.
إن في رمضان مواقف ودروس وعبر وذكريات، وما أجمل أن نتذكرها ونستذكرها لأخذ العبر، وتعزيز الثبات.