رمضان شهر مختلف؛ بما يحمله من رسائل ونفحات إيمانية للفرد والأسرة، والمجتمع، والأمة.
تتغير النفوس إيجابيا، نية في فعل الخير، وعزم نحو الصلاح، ومهابة من اقتراف ذنب أو التلبس بإثم، يوقظك ضميرك، ويذكرك: بوصية من وصايا الرسول الكريم، التي يوْدِعها نفس كل تقي:(من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
فيذكر هذا الحديث النفس، والضمير، والسمع، والبصر، والفؤاد؛ أن الصيام ليس- فقط -إمســــاكا وكفا عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات الظاهرة، وإنما يوقظ في النفس التقوى، العامل الأبرز في كبح نزعات الإنسان النزقة، ويدحر وساوس الشيطان المُوبِقة، فيمسك المسلم إلى جانب الإمساك عن المفطرات الحسـية، مفطرات من صنف آخــر، من تصرفات وأفعال وأقوال يكون منطلقها الزور، والخداع، والتلطخ بأخلاق مرذولة في المجتمع. فإذا لم يكف المرء عن السلوكيات الضارة المضرة، والزور في الأعمال "فليس لله حاجة في أن يدع -المرء - طعامه وشرابه".
وهنا نتذكر أن الصيام إنما هو سمو الروح، ونظافة السلوك، وطهر المشاعر والجوارح، فإذا الصائم عند فطره قد وضعه صيامه (إيمانا واحتسابا)، وبوّأه سمو روحه مقام صاحب دعاء لا يُرد؛ لحديث النبي الكريم عليه السلام: "إن للصائم عند فطره لدعوة لا ترد"، فيقف الصائم مبتهلا عند إفطاره للحظات احتوت أغلى وأثمن اللحظات، مع حديث آخر للرسول، وهو يقول:" ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم.. الحديث).
في تلك اللحظات الثمينة الغالية يلتقي الدعاء الذي لا يرد، مع الشعور بالفرح الغامر الذي يملأ نفس الصائم بهجة وسرورا كيف لا، والمصطفى عليه السلام يجلي جانبا من تلك الفرحة الغامرة في العاجلة، وواصفا لاكتمالها في الآجلة، حيث يقول: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
ونتذكر في رمضان مسيرة أمة حملت مشعل الهداية، ونور الحضارة؛ لتفتح بهذا الدين أبواب القلوب، وأبواب الحرية للإنسان.
كان عقبة بن نافع أحد قادة فتح أفريقيا قد وصل شاطئ المحيط الأطلسي، فخاض بفرسه خطوات في المحيط، ثم قال: والله لو أعلم أن خلفك أرضا ما ترددت في الوصول إليها دعوة لله!
فجاء موسى بن نصير؛ ليحقق أمنية عقبة بن نافع، بالتوجه شمالا، حيث عزم على فتح بلاد الأندلس، وكان أول خطوة قام بها بين يدي الفتح أن أرسل طليعة من خمسمائة جندي، في أربعة مراكب برئاسة طريف بن مالك المعافري اليمني، يستطلع الأمر. وكان ذلك في شهر رمضان من عام 91 من الهجرة، فنزل بجزيرة على ساحل البحر، غرب المضيق، سميت فيما بعد باسمه وماتزال الجزيرة تسمى باسمه حتى اليوم: جزيرة طريف. ومنها أخذ يشن الغارات على ما يليها فيعود بغنائم وأموال.
عززت هذه النتائج عزم موسى بن نصير على الفتح بعد أن كان قد استشار الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، الذي كان تردد مخافة أن يكون في فتح الأندلس مغامرة غير محسوبة، لكن نتائج استطلاع طريف أقنعت الخليفة، فجهز ابن نصير جيشا قوامه سبعة آلاف مجاهد بقيادة طارق بن زياد، الذي عبر المضيق، والذي أصبح يسمى باسمه: مضيق جبل طارق.
سبعة آلاف فقط من العرب والبربر، تحت راية التوحيد عبروا المضيق، وكانت معركة وادي لكة الشهيرة والتي حدثت في رمضان من عام 92هـ.
ومضت خطوات الفتح تتقدم في بلاد الأندلس، وعزز مسار الفتح عبور القائد موسى بن نصير بقرابة عشرين ألف مقاتل ليغطي توسع الفتح في أراضٍ شاسعة.
نعم، يذكرنا رمضــــان برســالة خير أمة أخرجت لتحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، فمضت برسالتها، تفتح العقول، والقلوب، وأبواب الحرية للإنسان، وهو ما حدى بصاحب كتاب قصة الحضارة توماس أرنولد أن يقول كلمة حق في كتابه؛ الدعوة إلى الإسلام، قال: لم تشهد بلاد الأندلس في تاريخها كله أكثر حزما وعدالة وحرية مما شهدته في أيام فاتحيها العرب.
فتأملوا في ما يفعله أدعياء الحضارة اليوم، ممن سُحِر بهم البعض، وانبهروا بسماع مــــــزاعمهم الحقوقية وادعاءاتهم الحضارية، قبل أن تُعَرِّى تلك المزاعم وتكشف حقيقتها معركة طوفان الأقصى.
إن أمة أَسست لحضارة راقية، وقدمت حضــــــارة إنسانية زاهرة، كان هدفها؛ تحرير الإنسان، وبنــــــاء الإنسان، وتنمية الإنسان، لهي مدعوة اليوم أن تسترد دورها الحضــاري، بوعي وإصرار، وبتحليق صقر، وزئير أسد، لا بتغريد بلبل، أو بهديل حمام؛ لأن مرحلة البناء صرامة، وقوة، وإرادة.
يذكرنا رمضان بمحطات خير أمة أخرجت للناس، ويذكرنا بأسس بناء حضارة خير أمة أخرجت للناس.
فالأمة إنما تنتصر بعقيدتها، وفكــرها وثقافتها، وبهُويّتها الصرفة المتميزة، وتتلاشى وتنهزم وتنهار، حين يتبناها خصمها الألد بالخداع، ويحتويها عدوها الأشد بالمكر؛ فتذوب في متاهاته، وتتماهى في أباطيل هُويّته.
ولكن.. عسى أن يذكرنا رمضان بسنوات عجاف قضتها الأمة في دروب التقليد الأعمى، فقادها نحو الضياع، وقد آن لها أن تثوب إلى الرشد، وأن تعود إلى جذورها، وأصولها، كما ثابت المقاومة الفلســطينية إلى الطــريق الأرشــد؛ لمــــواجهة الكيان اللقيط، فراحت تسطر تاريخا جديدا مشرقا لأمة صنعت في ماضيها تاريخا مجيدا، وهي قادرة على صناعة التاريخ من جديد.
عسى أن تمضي المقاومة الفلسطينية قدما على النهج المبين، حذرة من كيد ومكــر جلوب باشـا، أو خبث وطويــة ابن العلقمي.